شكل الأداء التمثيلي، الذي يقوم على خطاب الجسد الإنساني وبلاغته التعبيرية، مهد الحركة في المسرح والرقص والسينما، بل الرحم الذي تخلقت فيه هذه الفنون المتداخلة. وثمة عوامل أدت دوراً مهماً في المسرح المعاصر، وكان لها تأثيرها على إبراز الأداء الجس
شكل الأداء التمثيلي، الذي يقوم على خطاب الجسد الإنساني وبلاغته التعبيرية، مهد الحركة في المسرح والرقص والسينما، بل الرحم الذي تخلقت فيه هذه الفنون المتداخلة. وثمة عوامل أدت دوراً مهماً في المسرح المعاصر، وكان لها تأثيرها على إبراز الأداء الجسدي الحديث فلسفةً وفناً وتقنيات، منها:
1- ردة الفعل البصرية أو المشهدية على طغيان النص (أو الجانب الحواري السمعي) في المسرح، وبتأثير من السينما بوصفها فناً بصرياً. وكان ذلك ضمن اهتمامات الحركات التجريبية في المسرح العالمي.
2- الاهتمام بلغة الجسد، والتكوين الحركي، من خلال الأداء الإيمائي كأسلوب تعبير مستقل له قواعده الخاصة، كما في تجارب إتيينديكرو، جاك كوبو، جان لوي بارو، مارسيل مارسو، وفناني الرقص التعبيري الذين قدموا عروضاً جسورةً تعتمد على تحرير الجسد من قيوده، مثل: إيزادورادونكان، مارتا غراهام، ميرسكوننغهام، تيد شون، وروث سان دينيس.
3- تنظيرات وتجارب عدد من المسرحيين الطليعيين ذوي المشاريع البحثية والمختبرية، الذين نبذوا الحضارة الغربية الحديثة، وثاروا على المسرح التقليدي، تأثراً بالنزعة الفوضوية، وتعلقاً بأصول المسرح، وافتتاناً بينابيعه الطقسية والأسطورية النقية، وقدسيته، وخاماته البدائية التي أجهضها، أو شوهها المسرح الاستهلاكي، واللفظي، ومواضعات المنطق والعقل، والتكنلوجيا، والقيم المادية، والبنية التركيبية للغة، مثل الفريد جاري، أنتونينآرتو، غروتوفسكي، تاديوش كانتور، جوزيف شاينا، بيتر بروك، جوليان بيك، جوديث مالينا، روبرت ويلسون، آريان منوشكين، وغيرهم. ويُعد جاري وآرتو الأبوين الروحيين لكل هؤلاء المسرحيين الطليعيين.
في المسرح الدرامي يقوم أداء الممثل على الجدل بين الجسد "الواقعي" للإنسان/ المؤدي، والجسد "المتخيل" للشخصية الدرامية، حيث يخضع الأول للدلالة على الثاني، ومن ثم فإن الحضور المزدوج للممثل (الإنسان/ الشخصية) بسماته الفيزيقية هو الذي يسمح لجسده أن يكون المؤسس للبلاغة والمجاز المسرحيين، وذلك من خلال تضافر ثلاثة أسس: المعرفي، حيث يكتسب جسد الممثل معارف اجتماعية وأنثروبولوجية وجمالية، فضلاً عن المهارات والتقنيات التي تهيئه للتعبير بوعي وإدراك، والفيزيقي، حينما يكون الممثل واعياً بميكانيكية الجسد البشري وتشريحه، والعاطفي، حينما تكون حركة الجسد مرتكزة على دافع نفسي داخلي، كما يقول مدحت الكاشف في كتابه "اللغة الجسدية للممثل".
لكن ماذا بشأن أداء الممثل في المسرح ما بعد الدرامي، هل يصبح جسده ناقلاً للمعنى أو بؤرةً علامية تخدم الدلالة؟
يرىالباحث والناقد المسرحي الألمانيهانز- تيز ليمان، في كتابه"المسرح ما بعد الدرامي"، أن الجسد، الذييصبح موضوع الاهتمام في المسرح ما بعد الدرامي، ليس ناقلاً للمعنى، لكن في جسديته وإشارته ذات المعنى. أما العلامة المسرحية الرئيسة، وهي جسد الممثل، فترفض أن تخدم الدلالة. المسرح ما بعد الدرامي غالباً ما يقدم نفسه كـ "جسدية مكتفية بذاتها"، تعرض في حدتها، وإمكانياتها الإيمائية، و"حضورها" المشع وأبعادها المنقولة داخلياً وخارجياً على السواء".
ويقارن ليمان بين الجسد المادي في مسرح القرن الثامن عشر والمسرح ما بعد الدرامي قائلاً إن الأول لا تزال مفرداته الإيمائية تُقرأ وتُفسّر افتراضياً مثل النص، في حين أصبح له في الثاني واقعه الخاص الذي لا "يخبرنا" بهذه العاطفة أو تلك، بل "يعرض" نفسه من خلال حضوره، بوصفه موقع كتابة التاريخ الجمعي. وبهذا المعنى يغدو جسد الممثل، في المسرح ما بعد الدرامي، علامةً ديناميكيةً قابلة للتأويل (حمّال أوجه فيما يتصل بصفة الدلالة إلى درجة التحول إلى الغموض الذي يصعب حله)، وأثراً شبيهاً بـ"نص اللذة" الذي نظّر له بارت، فهو يعيد "تقديم الجسدية المؤلمة والمثيرة للذة، والتي أسمتها جوليا كرستيفا الجسدية السيميائية".
في هذا السياق أيضاً جاءت مقاربة جوزيت فيرال للفن الأدائي، حيث تكون السيمياء بالمعنى الكريستيفاوي حاضرةً فيه إلى حد ما، فجسد الممثل عنصر مركزي في العرض المسرحي، الذي يُعدّ أحد الحقول التي تتغير فيها الحدود على نحو مستمر، والأنساق الرمزية تعاد مساءلتها، ويكون مفهوم التمثيل محطّماً. تقول فيرال إن المؤدي يستخدم جسده في العرض كالرسام الذي يستخدم الخيش (الجنفاص) في الرسم، وتصف هذا الجسد بأنه جسد حرباء، جسد غريب من حيث رغبات الموضوع ومظهر الكبت. وتعترف بالخطر الحديث للجسد، شاعرةً بأنه "ينفجر في فراغ الماكنة"، على حد قولها، و"أن المؤدّي مازال بإمكانه أن يحافظ على حضوره بوساطة اللعب بالمفارقة القادرة على التلاعب بالماكنة التي تتحسسها وتنوب عنها".
لقد تأسس المسرح الحديث، بشكليه الدرامي وما بعد الدرامي على منظور آرتو، الذي أعطى الأولوية للجسد وللحركة على حساب النص، وشكّل إطاراً مرجعياً أساسياً لمعظم تجارب المخرجين الطليعيين الذين مرّ ذكرهم، ولأؤلئك الذين تبنوا لاحقاً أشكال المسرح الطقسية والصورية في الدول الاشتراكية المنحلة، والاسكندنافية، وأميركا اللاتينية، وبعض الدول الآسيوية والإفريقية، ومنها العربية، التي برز فيها عدد من المخرجين، على اختلاف تمثلهم وتبنيهم لذلك المنظور، وصيغ التعبير الجسدي والبصري في تجاربهم الإخراجية.