وهكذا ويوما ما، سيولد جيل في العراق يبرم الصلح ويقول في مؤتمر صحفي انيق وسريع: لقد كان السلام امرا سهلا، لا ندري لماذا عجز عنه اجدادنا.
هذا ليس حلما. انني اشرب شاي الصباح في شرفة تطل على ممر بحري يربط آسيا بأوربا، ويزدحم بسفن الشحن التي تربط العالم. هنا دارت اقسى المعارك بين الرومان والفرس، والمسيحية والاسلام، وآسيا وأوربا. بعد ذلك اختار المكان فرصته ورجاله وغلبت المصلحة، حماقة كل السلاطين.
وهكذا ويوما ما في هذه البلاد، سيأتي جيل يتصالح ويسخر من موتنا المستمر. يسخر من كلمات زعمائنا المليئة بالعنتريات والغرائز ونقص التعقل.
جيل سيفتح اليوتيوب العراقي ويسخر من طريقة المظلوم في التعبير عن ألمه ومن اسلوب الظالم في تبرير سياسته، على حد سواء.
عراقي المستقبل سيقارن ما حفظه يوتيوب من طريقة اجداده في التعامل مع انفسهم، والقضايا التي شغلت في اللحظة ذاتها في دول السلام رجال الاعمال والفتيات والموسيقيين ومخترعي الاجهزة الحديثة.. ويسخر من الطريقة التي ضاعت بها ايامنا، والعقود التي تبددت بالصراخ والتقاتل.
سيأتي يوما ما جيل في هذه البلاد يبرم الصلح ويقول في مؤتمر صحفي انيق وسريع: لقد كان أمراً سهلا، لا ندري لماذا عجز عنه اجدادنا.
سيأتي جيل يبتعد عن الشعارات المقدسة اثناء محاولته تعريف المشكلة، وسيعثر على كلمات بسيطة حلوة لشرح الحقوق والواجبات، وكلمات بسيطة اخرى لتعريف المصالح العظيمة التي تقول: ان الحياة اقصر من ان نضيعها في مشاكل مزيفة تقطر دما حقيقيا.
سيأتي الى هذه البلاد جيل يقوم بالاجتثاث ايضا، لكنه سيجتث الغباء والكذب والزهو الفارغ. سيجتث اللامسؤولية السياسية ازاء موت الناس وحياتهم. ويجتث العقول التي تتخيل ان الوطن قبيلة، وان القيادة قوة مردوخية ينبغي ان يخضع لها الجميع.
سيظهر في هذه البلاد جيل لا يتهرب من الخلافات الاجتماعية لكنه يعرف آداب "حسن الجوار" بين الطوائف والملل والنحل. جيل ليس لديه وقت فراغ طويل يورطه في معارك الكذب والتضليل.
انه جيل ظهر في كل البلدان بعد ان غطست في الدرك الاسفل للرذيلة السياسية. جيل سيدرك كما كتب مشرق عباس قبل ليلتين: ان الدواء ليس قطعة حلوى بل بمرارة العلقم القاتل. وان التنازل ليس عيبا بل فروسية وحسن تدبير كي لا ينفرط عقد المجتمع وكي لا يترك الرجال مسؤولياتهم ويتحولوا الى مجرد جلادين وقتلة.
الجيل هذا لن يكون مغرما بالتلاعن والتشاتم، سيدرك ان في كل الطوائف خيرا وشرا وان اللعبة الحضارية تبدأ حين نعثر على قواعد للتوازن تشجع عناصر الخير وتسحب بساط المبررات من تحت اقدام الشر.
انه جيل لن ينفق وقتا طويلا في بناء الجيوش وسيدرك ان المشاكل السياسية اذا لم تحظ بمعالجة عاجلة فلن يحلها مليون جندي، لان الجميع يمكنهم ان يتعلموا قسوة القتل المضحكة.
نعم، انه جيل لن يقرأ المقالات المليئة بالشتائم، بل سيحب شيئا من قبيل ما كتبه نبراس الكاظمي قبل يومين: شيعة العراق، بين خيار العزلة الاقليمية، او التطّلع الى اقليم اوراسيا.
لذلك سيكون في وسع عراقيي المستقبل ان يزيحوا جثثنا من الشوارع ليفحصوا خارطة المصالح الكبرى التي تقول بوضوح ان السلام ليس منة من احد على احد، بل هو ادراك عاجل لاهمية ان نتبادل الخدمات ونتشارك المنافع كي نبني بيوتنا المهدمة ويتاح لنا مواساة اراملنا وايتامنا ومحو آثار الحماقات السياسية التي جعلت الدنيا تسخر منا.
جيل سيعيد تعريف "الثأر" والمثؤور منه.. سيكتشف ان اعظم انتقام من الحماقة والدناءة والظلم، هو ان ننجح في امتلاك حياة سعيدة ومسالمة وحرة، وأن نتعلم كيف نحمي السلام هذا وندفع ثمنه عن طيب خاطر.
سيأتي يوما ما جيل في هذه البلاد، يبرم الصلح ويقول في مؤتمر صحفي انيق وسريع: لقد كان امرا سهلا، لا ندري لماذا عجز عنه أجدادنا.
مؤتمر صحفي لأحفاد الموتى
[post-views]
نشر في: 21 مايو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 8
قاسم عبد اللة
اتمنى على المالكي واتباعة قراءة هذا المقال لعل وعسى يستفيدون منة.... اعتقد انهم لازالوا على جهلهم ولم ولن يقرؤا....
نوار الحسيني
احسنت يا اخي سرمد
ضياء الجصاني
مع كل تقديري واعجابي بهذا المقال القيم أتمنى على الأخ الكاتب ان يعود الى مقعده الشاعري وكوب الشاي ليفكر مليافي ما يكتب مستقبلا عسى ان يرسم للجيل الذي بشرنابه نقططة البداية لكتابات محتشمةوخالية من التلاعن والتشاتم..تحياتي لك سرمد الطائي
سلام هاشم حافظ
مقال رائع كما انت دائما اخي سرمد واتمنى ان تقراه النخبة السياسية العراقية بمختلف مكونانها وان كنت اشك انهم يقرأون اصلا وان قرأوا فلا يفقهون ..وكان الله في عون (مكاريد العراق )مع الاعتذار لمحمد غازي الاخرس
احمد عبد الوهاب
جزيت خيرا اخي الكريم واتسائل معك عن الذي يملأ الدنيا بالكلام عن مخاطر الطائفية وهو الذي لم يستطع ان يتقبل قائد فرقة في الجيش من غير طائفته ويطرب كثيرا لمن يقول له(ابواسراء لاتعوفه)!!!لودامت لغيرك ماصارت اليك.
ابو علي الزيدي
حتما سيأتي هذا اليوم حين يمل الناس ويدركوا أنهم كانو موهومون بما صدقوا من أوهام وأن الدين لله والوطن للجميع .وان هذا اليوم سيأتي لا ريب .ان هكذا واقع قد مر على شعوب أخرى وحين أستفاقت أبدعت في كل شيْ وأستطاعت أن تبني بلدانها ووضعتها في مقدمة الدول من حيث ا
yass al-basry
لا اعتقد ياتي هكذا يوم..ببساطة لان الحماقات وحروب الطوائف لن تبقي احد ..لا شئ سيبقى سوى الرماد
محمد الخالدي - الكويت
مقال رائع .. فيه فكر وعمق وبلاغة وموضوعية ، والأهم من ذلك .. فيه عقلانية وخلق إنساني رفيع . شكرا لك أستاذ سرمد .. ومعك نردد .. سيأتي جيل أفضل بإذن الله :)