TOP

جريدة المدى > عام > حضور السيرة الذاتية والبحث عن المدينة الفاضلة

حضور السيرة الذاتية والبحث عن المدينة الفاضلة

نشر في: 27 مايو, 2013: 10:01 م

تعالج رواية (القنافذ في يوم ساخن) للروائي فلاح رحيم موضوعات عدة ، منها ما يختص بهموم الإنسان في العراق ، ومنها ما هو كوني وشمولي يعاني منه أي إنسان في العالم ، حيث تمنح هذه الرواية قارئها مساحة واسعة في استغوار هواجس المنفيين وعذاباتهم ، بحثا عن ملاذ

تعالج رواية (القنافذ في يوم ساخن) للروائي فلاح رحيم موضوعات عدة ، منها ما يختص بهموم الإنسان في العراق ، ومنها ما هو كوني وشمولي يعاني منه أي إنسان في العالم ، حيث تمنح هذه الرواية قارئها مساحة واسعة في استغوار هواجس المنفيين وعذاباتهم ، بحثا عن ملاذات يتلمسون فيها تطلعاتهم وإنسانيتهم ، كما تتناول قضايا الإرهاب والطائفية والجنس والدين والسياسة والصراع بين الهويات.
  تتلخص الرواية في أن بطلها سليم كاظم الذي أصبح فيما بعد أستاذا جامعيا ، عاش حروب النظام الدامية ، جنديا - مغلوبا على أمره- في ديزفول ومهران ومدن أخرى خارج البلاد , عاش ، وهو المثقف الذي يرى في نفسه مثقفا عضويا ، مستلب الإرادة بسبب القهر السياسي الذي يطال كل باحث عن الحرية ، حيث يلجأ الى مغادرة الوطن بسبب انتمائه الى الحزب الشيوعي وعدم قدرته على مداجاة السلطة الحاكمة وآلتها في قمع اليسار أو تدجينه ، إذ يحيا خائفا .. مترقبا ، ومنفيا يتنقل من منفى الى آخر ، وفي هذه المنافي تتجسد تفاصيل الرواية وتلتئم خيوطها ما بين بغداد وليبيا وعمان ومسقط وصور.
  يدلنا الكاتب في مفتتح الرواية على مدلول القنافذ بمعاينة حياتها وسلوكها ، حيث يمضي الى تفسير استعماله لهذا العنوان من خلال بعض الإحالات الرمزية من كتب التراث كـ (لسان العرب) لابن منظور و (ملاحق ومخلوقات) لآرثر شوبنهور و (كتاب الوطواط). ومما ورد من إشارات حول هذا الكائن الغريب لدى الكتاب الأوربيين ، ككاتبة الأطفال بياتريس بوتر وجاك دريدا. إن هذه الإحالات ذات دلالات إيمائية ملغزة ، تشير الى ما هو مألوف عند القنافذ من طبائع وسلوكيات يمكن أن تتماثل في غرائبيتها مع طبائع الإنسان.
   فالقنفذ كما يقول كتاب الوطواط يجعل في جحره بابين ، احدهما من جهة الجنوب والآخر من الشمال ، فإذا هبّت الريح الجنوب سد باب جهتها وفتح باب جهة الشمال ، وهو لا يظهر إلا في الليل ، لذلك يشبّه بالنمام والماحل ، وذكر اللسان  القبّع: القنفذ لأنه يخنس رأسه ، وقيل لأنه يقبع رأسه بين شوكه أي يخبئه ، وقيل: لأنه يقبع رأسه أي يرده الى داخل. أما جاك دريد فإنه يصف القنفذ بقوله: يتكور في كرة شائكة واخزة ، مكشوفا للخطر وخطيرًا ، متحسبًّا للطوارئ وعاجزًا عن التكيف معها (فهو إذ يخنس متواريا في كرة وهو يحدس خطرا ، إنما يريد من احتمال تعرضه لحادث على الطريق). وان هذه التعريفات مداخل تحريضية ومقترحات أولية تحفز القارئ على استكناه ما في الرواية من ترابطات بين الإنسان السوي ، والإنسان القنفذ. ولعل لجوء السارد الى هذه الصيغة متأتٍ من انحيازه إلى الوضوح أو التحسب من غموض ثيمة العنونة ، تلك الثيمة التي يعتقد الروائي فلاح رحيم بالتباسها على القارئ ، مما اضطره إلى ربط استقبال الرواية بتوظيف الموروث الثقافي في توصيل هواجسه وتساؤلاته وبسط قضية المنفي سليم كاظم في سيرورة أحداث الرواية.
  ترصد الرواية مصائر المنفيين وأحوالهم ، حيث تتغير في رؤيتها ملاحقة المنفي سليم كاظم وتحولاته المفاجئة بين بغداد وليبيا وصور، وكذلك المنفي الآخر- الذي أدركته ذات المحنة - صديقه شهاب (كامل شياع)، وهو من أدمن حياة المنافي منذ السبعينات ، شهاب أتقن أكثر من لغة وهو يتشبث  بالبقاء في تلك المدن القصيّة هاربا من الأجواء المشحونة  بالقسوة والخوف ، ولاسيما أن شهاب كان مكلفا بمهمات تنظيمية في الحزب الشيوعي ، مما دفعه هذا التكليف إلى الاحتفاظ بعلاقته الحميمة مع خليته التي أدركها التبعثر والتشتت في أكثر من مكان ، بعد أن خسر الحزب مشروعية استمراره في  جبهة  مفترضة مع البعث حتى انتهى أعضاؤه إلى التواري عن الأنظار والانسحاب من شرك التجربة الجبهوية والاستسلام لكوابيس المنافي وقسوة القطيعة ، يذكّر سليم صديقه شهاب في إحدى رسائله بتلك التجربة المريرة قائلا: (كنت تصف نفسك بالملتزم الديمقراطي. حين جمع  بيننا حبيب محمود عام 1975 قال: انه يجدنا وجهين لعملة واحدة ولابد أن نتعارف. كلانا يلتهم الورق أكثر من الماء والطعام ، وكلانا مولع بتلك اللحظة المتوهجة التي يغادر بها الفكر كهوف الانطواء وينتمي الى صخب التجربة الإنسانية والتاريخية المدهش ، إن المثقف المستقل عن التنظيم السياسي يبقى هامشيا لأن الوجود داخل تنظيم معين لا يعني المشاركة في نشاطاته فقط، ولكنه يعني معرفة من نوع خاص لا يوفرها إلا الفعل السياسي) (ص56). إن هذه التبادلية الاسترجاعية بين سليم وشهاب هي تبادلية لاستذكار رعب  الماضي من خلال الرسائل ، والتذكير بما آلت إليه هذه التنظيمات اليسارية تحت عباءة الجبهة ، وكيف كان مصيرها في مهرجان الحماقة والاستبداد ؟. إن الالتفاف على تلك الجبهة كان فخا مفبركا ، وكان في حقيقته صناعة بعثية أجهزت على الشعرة الأخيرة بين المتناقضين. ولعل هذه الرسائل في منظور الرواية قد شكلت معطى تأمليا بين المتراسلين لمراجعة المواقف ، والعودة إلى الذات ، وخصوصا تلك الرسائل المغرقة بالتوجس والتي يتلقاها سليم -عبر البريد الالكتروني- من صديقه المنفي شهاب (كامل شياع) ، وهي تنطوي على رزمة من المحظورات ... مصاعب العودة وزئبقية الآتي بعد أن أصبح الوطن مفخخا من كل جانب ، ومزرعة للمقت والطائفية والاحتلال ، وكأننا في مواجهة أجراس الخيبة التي تضع المرء على حافة التلاشي و الانهيار.
  (بعد هذا الانغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره ، يسألني بعضهم أحيانا ، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب ، أنا الوافد أخيرا الى دوامة العنف المستشري ، اعلم أنني قد أكون هدفا لقَتَلَة لا اعرفهم ، ولا أظنهم يبغون مني ثأرا شخصيا ، واعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها) (ص338).
  كما اجتهد الكاتب في تقديم سيرته الذاتية بحساسية عالية وإيقاع مرهف ، وإنْ كانت هذه السيرة مقطوعة عن الماضي وأحلام الطفولة ، فالسارد لم يفصح عن نشأته وطفولته المبكرة ، بل ارتأى أن يقدم لنا شخصية محورية امتدت حيواتها من البلوغ واكتسابه مرحلة الوعي ، وتجاوزه المراحل الأولى لحياته. كانت سيرة مسكونة بالهموم والآلام والفواجع ، حيث عاش بطل الرواية سنوات صعبة وعسيرة بين خنادق القتال وفي حروب لا يعي مِن أسبابها أي شيء ، حروب عابثة ومجنونة ، لكنه أفْلَتَ من أنيابها سهوًا ، وتوفرت له الفرصة لإكمال دراسته وحصوله على الشهادة العليا ، إلا انه لم يجد المكان المناسب حينها كي يؤدي وظيفته كإنسان واعٍ ومتعلم ، فلجأ الى الخروج القسري من الوطن ، والبحث عن مدينته الفاضلة خارج جغرافيا خيانة الضمير.
  المهم أنَّ السارد أراد اكتشاف ذاته وعنفوانها من خلال اكتشاف ذوات الآخرين ، فثمة أنقياء ومعذبون ومحاصرون بأمانيهم قد لاذوا بأوجاعهم مما ينتظرهم من نهايات فاجعة ، فاجترحوا مصيرهم بين الاستسلام للغياب الأبدي أو الخلاص من جبروت الحاكم بالرفض وعدم الارتهان لإرادته العمياء.
  ومما لاشك فيه أن سيرة الكاتب الذاتية كانت واحدة من مهيمنات السرد الارتدادي في الرواية ، أي الرجوع  الى الذاكرة المحشوّة بالأحداث والتفاصيل اليومية بطريقة القطع أو الفلاش باك ، حيث نلاحظ مفردات تلك السيرة متشظية بين فصولها ، وكثيرا ما تستيقظ اشتعالاتها الراسبة في لا وعيه من خلال التفجع ورثاء خسارات الغربة.
كما تتجلى صورة المرأة في الرواية بحضورها الإنساني والثقافي والاجتماعي ، وإنْ اتخذ هذا الحضور مسارات مختلفة ، حيث نجد امرأة المثال وامرأة الخطيئة في مَتْنها ، وهي شخصيات رئيسة لها ملامحها وفضاءاتها التي تتلاءم مع الصورة المتوارثة عن المرأة ، فهناك الأم التي تترقب أخبار ولدها سليم وتتمنى عليه التفاعل مع عراقيي الغربة ، والأخت أنعام وهي تكشف له -عبر الهاتف- عن حقيقة الأوضاع في مدينته البيّاع ، وكيف تعرض الحي الى العنف الطائفي والتهجير. وهناك في المسار الآخر نرى أريكا وبتول  وساندرا ،اريكا ، تلك المتمنعة المغرورة بجمالها ، غير أنَّ حياتها انطفأت تحت تأثير الخمرة ، بينما كان سليم يمني نفسه بالتقرب من العراقية بتول ... وان بتول هذه هي عنده امرأة المثال التي اختصر جمالها وبراءتها بعراقيتها وغموض شخصيتها ، لكونها تمثل له حاضرًا مُغيّبا ... حاضرًا افتقده في كل النساء اللواتي التقاهن في الجامعة.
ويمكن أن تكون ساندرا تلك المرأة المتخشبة جسديا - والتي كانت متحفا لأسرار بطل الرواية - صورة من صور الخطيئة المرتجلة والرغبة الجامحة ، وهي تسوّق ما فسد من (بضاعتها) المتخمة بداء اللذة والخديعة ، بضاعة (الحضارة) المتخمة بالوضاعة عبر التلامس غير المشروع ، سواء كان تلامسا جنسيا أم تلامسا حضاريا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

مقالات ذات صلة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع
عام

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

علي بدركانت مارلين مونرو، رمزاَ أبدياً لجمال غريب وأنوثة لا تقهر، لكن حياتها الشخصية قصة مختلفة تمامًا. في العام 1956، قررت مارلين أن تبتعد عن عالم هوليوود قليلاً، وتتزوج من آرثر ميلر، الكاتب المسرحي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram