بعد سقوط صدام مباشرة على يد الأمريكان، قررت، مع ثلة من الأصدقاء، الذهاب لبغداد بعد فراق عنها جاوز العشرين عاما. اخترت السفر اليها عن طريق عمّان براً، والتي قضيت بها ثلاث ليال قبل ان أيمم وجهي صوب العراق "الجديد".
في الفندق الذي أقمت به بالعاصمة الأردنية جمعتني الصدفة بضابطين عراقيين كبيرين في صالة تناول الإفطار الصباحي. بدأ اللقاء عندما سلم أحدهما عليّ بالاسم مبينا انه يعرفني من خلال مشاهدته لي على قناة "المستقلة" وغيرها قبل السقوط. كان ألم الانكسار واضحاً على وجهه ونبرات صوته، بينما اكتفى الضابط الآخر بإشعال سيجارة اثر أخرى مكتفيا بتناول الشاي دون ان يضع لقمة واحدة في فمه.
سألتهما عن سر سقوط بغداد بتلك السرعة التي ما كانت تخطر ببال أحد. رد الأول، الذي عرفت منه بانه كان قائد فرقة، ان بغداد سقطت قبل 9 نيسان! كيف؟ سقطت من اليوم الذي سلم به صدام امر حمايتها بيد ولده قصي. سألته: هذا يعني انكم كنتم تعرفون بانها ستسقط لكنكم سكتم، أليس كذلك؟ أجابني: وهل للعسكري خيار غير السكوت؟
عندها تدخل الثاني وقال بجرأة عسكري محترف: تلك هي غلطتنا الكبرى التي دفع العراق والعراقيين ثمنها قاسيا. وحين لمس احترامي له وإعجابي بصراحته أكمل حديثه: لا أدعي بأننا كنا نستطيع دحر الأمريكان لأننا كنا نخوض حربا غير متكافئة من كل النواحي. لكننا لو تمردنا على صدام يوم اعلن تعيين القادة العسكريين حسب هواه والقينا عليه القبض بسبب ضعف خبرته وتهوره وتدخله بما هو ليس من اختصاصه، فلربما نفعنا ذلك في إسقاط ذريعة شنّ الحرب علينا من قبل قوات التحالف. حاول الأول ان يخفف من غضب صاحبه بعد ان تلفت يمينا وشمالا خوفا من ان يسمعهما أحد، وقال له: لكن لا تنسى ان التمرد في ايام الحرب جريمة كبرى، ولا تنسى ايضا ان صدام كان القائد العام للقوات المسلحة. رد الحزين الذي كان يعوّض دموع عينيه بدخان سجائره: وهل تعتقد اني لا اعرف ذلك؟ ولو أن من فات فات ومن مات مات، لكن من ينقذ وطنا من الخراب وحياة شعب من الهلاك لا يعد متمردا. قالها واختنق صوته بعد ان صعب عليه حبس دموعه ثم انطلق بصوت أعلى: "لم يكن صدام عسكريا ولم يخدم بالجيش يوما واحدا بحياته حتى ولو بصفة جندي مكلف أو نائب عريف متطوع. لقد احتقر "تاريخ" جيشنا كله عندما اناط حماية بغدااااااااااد بيد طرطور مثل قصي".
أحس الرجل بان صوته قد ارتفع فعمد الى اخراج سيجارة أخرى رغم ان الاولى مازالت مشتعلة بين يديه. أشعل التي أخرجها توا بنار التي بين يديه ثم دمدم بصوت مسموع: آسف، فليس الطرطور قصي، فقط، بل طرطور أيضا من لم يعترض او يتمرد او يقف بوجه من عيّنه.
ربّاط الكلام، غدا.
الطـرطـور
[post-views]
نشر في: 27 مايو, 2013: 10:01 م