كنت في الثالثة عشر من عمري عندما أصطحبني أخي الكبير المرحوم ( عبد اليمة ) لمشاهدة الفيلم الإيطالي ــ الفرنسي ( ساكو وفانزيتي ) والمنتج عام 1971 .أخراج جوليانو مونتالدو وبطولة جان ماريا فولونتي .أتذكر الزحام الهائل على شباك قطع التذاكر في
كنت في الثالثة عشر من عمري عندما أصطحبني أخي الكبير المرحوم ( عبد اليمة ) لمشاهدة الفيلم الإيطالي ــ الفرنسي ( ساكو وفانزيتي ) والمنتج عام 1971 .أخراج جوليانو مونتالدو وبطولة جان ماريا فولونتي .
أتذكر الزحام الهائل على شباك قطع التذاكر في سينما الأندلس في مدينة الناصرية ( 360 كم جنوب بغداد ) .وكان الحضور خليطا من كل شرائح المجتمع وكأنهم بإصرارهم للحضور في العرض الأول يريدون تكريم هذين الكادحين الايطاليين نيقولا ساكو وبارتيليميو فانزيتي واللذين هاجرا الى امريكا ولينتميا الى حزب يطالب بحقوق العمال مما ازعج السلطات الأمريكية ليفبركا لهما التهمة المعروفة ، تهمة قتل الصراف وحارسه وليدفعا الثمن ( الإعدام ) وهما يجلسان بصمت وكبرياء على الكرسي الكهربائي.
مازلت أتخيل وجهي ساكو ( صانع الأحذية ) ورفيقه فانزيتي ( بائع السمك ) بوجهيهما الحاديّْ التقاطيع والنظرات الغريبة والمليئة بتساؤلات جبروت يدل على براءتهما ، مما الهم هذا الكثير من كتاب العالم المتحضر لينشدوا باسمهما القصائد ويكتبوا القصص والمسرحيات . وكما شرح لنا معلمنا في الصف السادس الابتدائي عندما عرف أن نصف الصف ذهب لمشاهدة الفيلم قال :هذا درس للحرية والحياة والمواقف العظيمة .ما شاهدتموه يمنحكم ثقافة وأحلاما وأخيلة ومواقف اكثر الف مرة من قصص محمد عطية الابراشي التي تملأ مكتبة المدرسة بقصص العفاريب وخرائب الاهرامات والجنيات .
أنتم تحتاجون إلى الواقع أولا ومن ثم تستعينوا بالخيال.
بعد ستة أعوام من إخراج هذا الفيلم وفي عام 1977 أعلن حاكم ولاية ماساتشوستس في تصريح رسمي براءتهما. لأكتشف ومع كلام معلمي أن الحرية عندما تدان ويقاضونها ظلما فأن براءتها دائما ترتهن باعتراف متأخر من ضمير التأريخ . مجد ساكو فانزيتي ليس في حصولها على البراءة بعد حوالي 57 عاماً ، بل في تلك المتعة والالهام اللذان سكنا صبانا ونحن نتأمل وجهيهما في مساحة الأمل بأن العدل سوف يمنحهما براءته بالرغم من أنهما كانا يعلمان أن هذا السيناريو قائمٌ على الظلم والتلفيق والكره وكأنهما أتيا هنا ليخربا الحلم الرأسمالي بنضالهما بين طبقة العمال أكثر مما تفعله المافيات الصقلية في حانات الليل والقمار والشوارع الخلفية في شيكاغو ونيويورك ولاس فيغاس.
جيل كامل يتسمر امام الشاشة البيضاء ، يذرف دموعه مع محنة هاذين الكادحين بعدما كنا نذرف الدموع في الأفلام الهندية فقط ، لكن رومانسية اللحظات العنيدة التي قضاها العاملان ساكو وفانزيتي في مواجهة افتراءات المحققين صنعت في قلوبنا وعقولنا قناعات أن الحلم اليساري لسوف يغيض الجميع في نضاله من اجل احلامه ، وأتذكر تفسيرا آخراً لمعلمنا : هذا الفيلم يعلمنا الى أي جهة نبعث بنظراتنا عندما نحتاج الى الحرية والأمل وعطر الوردة.
من تلك الطفولة القديمة ومن ذلك الصبا المتحمس أتخيل الوجوه المغدورة بصعقةِ الكهرباء ، وكيف كنا نرتجف مع ارتجاف الأداء الحقيقي للممثلين ، ويبدو أن السينما الايطالية بواقعيتها الجديدة وضعت مع هذا الفيلم مسارات الحداثة في نمط الأعمال المقدمة ليخلصها من موجتها الكلاسيكية والإباحية والرومانسية ، فيخلط هذا كله في رؤية العدسة الجديدة للحدث في ظل استعار مماحكات الحرب الباردة وحرب فيتنام وموجات العبث وبادر ماينهوف وعمليات الفدائية ليلى خالد.
من ذلك الزمن الذي لن يعود عطره لأن التأريخ لايلبس ثوبه مرتين ، أحمل حنين الذكريات وأمنياتنا للتحول الغيوم الى مركبات فضاء وتحملنا الى قبري ساكو وفانزيتي لنضع عليهما باقات ورد وفاء منا لتلك الشحنة الإنسانية والوطنية والجمالية والتي حملوها لنا من خلال إصرارهما على انهما أصحاب قضية وانهما أبرياء وليسا قتله ...