TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الدرس الأخير

الدرس الأخير

نشر في: 31 مايو, 2013: 10:01 م

كان الحلم مستحيلا على ابنة مهاجر بلغاري التحقت بصفوف أقصى اليسار وناضلت ضد سياسة القمع، أن تجد لها مكانا في مجتمع الساسة، في بلد مثل البرازيل، وعندما أصبحت "ديلما روسيف" وزيرة للمالية لم تكن تعرف ان الطريق إلى رئاسة الجمهورية اصبح سالكا وانها ستصبح في يوم من الأيام أول رئيسة جمهورية في تاريخ بلاد السامبا وبيليه، في مناسبات عدة تحدثت الرئيسة أو "أم الفقراء" كما يحلو للبرازيليين ان ينادوها عن تجربتها في هذا العالم. التجربة الأولى عندما انضمت للعمل العسكري تحت قيادة منظمة التحرر الوطني، كان للتنظيم الجديد تأثيره الكبير في الحياة السياسية والشخصية لديلما، هناك تعرفت على رفيق السلاح غالينو الذي سيصبح زوجها، ليذهبا معا لقضاء شهر العسل في المعتقل، تقول: "بعد خروجي من السجن حاولت ان أدفع باتجاه ان تتحول المنظمة إلى العمل السياسي، فقد قررت هذه المرة ان اختار السياسة بديلا للسلاح".
المفكر والمناضل الفرنسي ريجيس دوبريه، كان له الأثر الكبير في التحول الذي طرأ على شخصية المرأة الحديدية، "في السجن تفرغت لقراءة أعمال ريجيس دوبريه سحرني كتابه الثورة في الثورة"، كانت تحلم ان تصبح مثل دوبريه الذي بدأ العمل الثوري وهو طالب جامعي في باريس، عندما حمل حقيبة خالية من الثياب وسافر لكي ينضم إلى اشهر اسمين في عالم الثورة في الستينات، فيدل كاسترو وجيفارا ليقاتل معهما في جبال كوبا وأدغال بوليفيا، تقول "ان من نشأ في تلك السنوات العصيبة كان يتعلم كيف يواجه المخاطر بروح صلبة". ظلت على الدوام تؤمن بما قاله ماركس ذات يوم من ان "التحرر الإنساني غير متحقق إلا عندما يتعرف الإنسان على قواه الذاتية وينظمها بوصفها قوى اجتماعية ولا يعود يفصل نفسه، بالتالي،عن القوى الاجتماعية".
محطات كثيرة رسمت شخصية "الرئيسة"، التي تفتح وعيها الاشتراكي مبكرا، وتراوحت مسيرتها السياسية بين الراديكالية والبراغماتية، بعدما اختبرت تجربة السجن والتعذيب في السبعينات، بدأت الفتاة الثورية تتحول إلى امرأة أكثر صلابة، استكملت دراستها في الاقتصاد، لتبدأ رحلة العمل في المؤسسات الاقتصادية، إلا ان التجربة الأهم في حياتها لقاؤها بالسياسي البرازيلي إيناسيو لولا داسيلفا الذي سيصبح في ما بعد رئيسا للبرازيل حيث تشهد البلاد خلال فترة حكمة اكبر تحول في تاريخها من دولة مثقلة بالديون الى دولة تعد اليوم سادس اقتصاد في العالم، كانت المرأة الثورية احد المساهمين في هذه النقلة الاقتصادية الكبيرة من خلال إدارتها لبرنامج تسريع النمو الاقتصادي: "أنا اقتصادية وعلمتني الحياة أن الاقتصاد ليس أرقاماً فقط بل عليه أن يرفع من مستوى حياة الناس ".
على مكتبها تضع ديلما صورة لسلفادور الليندي وحين تسألها مراسلة الـ بي بي سي عن مغزى هذه الصورة تقول لكل منا طريق يؤدي إلى المكان نفسه، وتقصد أنها ذاهبة إلى الثورة والتغيير عن طريق خدمة الناس لاعن طريق الشعارات والخطابات.
في كتابه الذي ترجم للعربية مؤخرا "البرازيل بين امرأة ورجل" يعلق المؤرخ بيري أندرسون على المقارنات التي شبهت حكم لولا ومن بعده ديلما بما يحصل في بلدان مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، ولا ينسى تركيا طبعا، بان قادة هذه البلدان حشدوا الناس من اجل خدمة البلاد لا من اجل التصفيق لهم.. فلم يلجأ قادة البرازيل الجدد إلى ترسيخ دعائم حكمهم بالاعتماد على أعضاء حزبهم والمقربين لهم، بل انهم توجهوا بخطاب موحد إلى كل البرازيليين، حتى وجدنا قطاعات كبيرة من اليمين البرازيلي تنتخب امرأة ماركسية الهوى واليقين.. ويضيف أندرسون ان الخطوة الأهم في تجربة دليما أنها أحاطت نفسها بالمفكرين والمستشارين الصادقين، وليس بالهتافيين والمتملقين.
كانت السياسة التي اتبعتها "الرئيسة البرازيلية" تقوم على تحسين أحوال الفقراء وباحترام مزاج الشعب الذي يميل إلى تجنب النزاعات التي طالما أرهقت البلاد،مع الحرص الدائم على صدق تعهداتها الديمقراطية بألا ترتكب ما يدفع الناس للشك فيها، باستخدامها للقمع أو إظهار رغبتها في الاستبداد أو الصدام مع مؤسسات الدولة.
 تقول ديلما لمراسلة الـ بي بي سي: ان الدرس الأخير الذي تعلمته من معلمها "لولا" يتلخص في التزامها بتعهداتها إلى الناس: "في اللحظة التي أشعر بأن البعض يرى وجودي في الحكم لا يخدم البلاد سأنفض يدي من السلطة وأعود للممارسة هوايتي في المطبخ.. فلا مكان لحاكم لا يؤمن انه موظف يجب ان يحظى بثقة الآخرين حتى ولو كان سبباً في انقاد الملايين من العوز والتسلط".
تتجه جميع الأمم نحو المستقبل، وجميع طرق السياسة فيها تقود الى الافضل. الا هذه البلاد التي يتحول فيها السياسي الى "ضرورة تاريخية" بمجرد ان يدلف باب القصر الجمهوري.. عاد الرئيس الامريكي ايزنهاور من انتصار الحرب العالمية الثانية وقد جعل بلده أكبر دول العالم. ولكن في اليوم الاخير من ولايته، كان عليه ان يغادر البيت الابيض،. ليس للديموقراطية أي تفسير آخر، غير احترام تبادل السلطة.. لماذا لايتعلم ساستنا درس ديلما الاخير ، من ان الحاكم ليس ألها يقول ويقضي ويقرر، ولا يحق لاحد الطعن عليه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 5

  1. رمزي الحيدر

    أنت تتكلم عن بشر متحضريين لهم صفات إنسانية ، لا تقارنهم مع ناس منحطين .

  2. فادي أنس

    أقف أجلالا واحتراما لوضوح الرؤيا وشجاعة الطرح لدى كل من علي حسين وسرمد الطائي. تحياتي لكما ودعواتي لله أن يحفظكما وأمثالكما من أجل عراق الغد المشرق أن شاء الله.

  3. ابو علي الزيدي

    الاخ علي نعرف كلنا انك لمن توجه هذا الكلام ولكن لا متلقي منهمكون بالنهب والفساد أنهم صم لا يسمعون وعمي لا ينظرون كالقراصنه لا ينظرون الا لغنائمهم.فكيف تريد منهم أن يكونوا كالأسوياء لاهم رجال سياسة ولا رجال أقتصاد ولا قادة أنهم كالقراصنه لا يعرفوا غير البح

  4. ابو علي الزيدي

    الاخ علي نعرف كلنا انك لمن توجه هذا الكلام ولكن لا متلقي منهمكون بالنهب والفساد أنهم صم لا يسمعون وعمي لا ينظرون كالقراصنه لا ينظرون الا لغنائمهم.فكيف تريد منهم أن يكونوا كالأسوياء لاهم رجال سياسة ولا رجال أقتصاد ولا قادة أنهم كالقراصنه لا يعرفوا غير البح

  5. عساكم بخير

    في البدء شكرا على هذا المقال الذي نحن جميعا نحتاج الى هكذا افكار وممارسات لشخصيات قله نظيرها بالتفكير والتدبير لصنع الغد الافضل لشعوبها المحرومة والقابعة تحت نير الاستبداد والتبعية الضيقة لافكار جهله في الف باء السياسة والتعليمالابتدائي اتمنى على جميع من

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram