TOP

جريدة المدى > عام > محمود عبد الوهاب .. استثمار الفوتوغرافيا في السرد

محمود عبد الوهاب .. استثمار الفوتوغرافيا في السرد

نشر في: 14 يونيو, 2013: 10:01 م

قصة " سيرة " محاولة لاستثمار الفوتوغرافيا في اقتراح محيط إطاري لخمسة شخوص مركزية ، استطاعت الفوتوغرافيا تحضير ذاكرة الراوي للحديث عن " كمال / خليل / عبد الواحد / أحمد / ومصطفى " ولم يبق حياً منهم سوى أحمد . واجه كل واحد منهم تراجيديا خاصة ، وكان المو

قصة " سيرة " محاولة لاستثمار الفوتوغرافيا في اقتراح محيط إطاري لخمسة شخوص مركزية ، استطاعت الفوتوغرافيا تحضير ذاكرة الراوي للحديث عن " كمال / خليل / عبد الواحد / أحمد / ومصطفى " ولم يبق حياً منهم سوى أحمد . واجه كل واحد منهم تراجيديا خاصة ، وكان الموت مصيرا عاجلا للجميع ، لكن طريقة تحققه متباينة بين واحد وآخر . قصة " سيرة " عبر الفوتوغرافيا فرصة الراوي كي يتحدث عن الأشخاص وأزمنة مشتركة بينهم منذ لحظة التقاط الصورة عام 1942 .

أزمنة معبر عنها عبر الأزياء وموجودات الفضاء العام الملاحق من قبل الراوي بوصف سريع ودال : [ إن قدم الزمن الذي التقطت فيه باد من ياقات سترهم العريضة ، وبناطيلهم الفضفاضة ذات الكفة العريضة عند القدمين ، وأربطة أحذيتهم المعقودة ، على شكل جناحي الفراشة ، المتدلية النهايات عند الجوانب ، وتسريحات شعورهم المرتدة الى الخلف بشدة ، ومن طراز الأبنية الشرقية ذات الطابقين ، والساعة الكبيرة في البرج الخشبي الشاهق ، التي كانت أرقامها اللاتينية باهتة وعقرباها يشيران الى ما بعد منتصف النهار بعد قليل ، ومن سعة المقهى ومداخل المخازن والزورق البخاري الارستقراطي الذي كان راسياً عند نهاية السلم الإسمنتي ، ومن القوارب بأفرشتها المزركشة التي تظهر وراءهم . كان الزمن يحتفظ بطابعه .... ص41 ] هذا الكشف الانثربولوجي الدقيق للمكان وتفاصيل العمارة والمجاور لها مثل المقهى والمخازن والقوارب المفروشة . وبعد الوصف الدقيق يركز محمود عبد الوهاب : [ كان الزمن يحتفظ بطابعه ] . ولا أعتقد بأن الفوتوغرافيا السائدة في بداية الأربعينات التي تحتفظ بكل الذي قاله الراوي . الا ان القاص راغب في الوصف والتسجيل وكان اهتمامه الفني بالفوتوغرافيا هو الذي جعله أكثر حماساً لذلك ، ليكشف عن جانب مهم من ثقافته إضافة الى السينما كما في قصة " توليف " . ولأن الراوي محكوم بنوع معين من النهاية التراجيدية ، اهتم بوضوح بشخصية أخيه أحمد ، فجعل منه مركزاً في الفوتوغرافيا إضافة للمحيط الموصوف ، ربما لأن نهاية أحمد مغايرة ومختلفة تماماً ، لأن الفلسفة تمركزت حول اليد والعين ، واختار الراوي فاجعة أحمد الذي فقد نظره سريعاً وبطريقة غريبة . أحمد هو المركز أو القطب الذي سلط الراوي عبره الضوء على الشخوص الأخرى . قلنا بأن الموت مصير كل واحد منهم ، هكذا دائماً شخوص محمود عبد الوهاب التي دائماً ما تكون محاصرة بعزلة موحشة أو ملاحقة بالموت ، هذه التراجيديا الأزلية التي انشغلت بها الأسطورة والملاحم ، [ كان أخي أوضحهم في الصورة ، وقد بدت وجوه المارة خلفه ، ممحوة أو ملتبسة . كان بريق عينيه يزداد تألقاً كلما تأملته مدة أطول ، كما لو أن عينيه اللتين فقدتا البصر فيما بعد بسبب الارتفاع المفاجئ لضغط الدم ، كانتا تحاولان أن تمسكا بأكبر قدر من المشاهد والصور والمركبات قبل أن تقع محنته . حدث ذلك في صباح أحد الأيام بعد سنين من تاريخ الصورة . فجأة ، وهو يصب الماء على وجهه من حنفية المغسلة تحت السلم . ناداني مرتبكاً ، وبحركة آلية تقدمت إليه . لا أدري كيف استسلمت لمصيره من دون ضجة . تناولت ذراعه وسرنا معاً ، أنا أمامه ، وهو منقاد إليَّ بانكسار متخذاً من مشيته هيئة من ألف عماه من سنين .... ص42 ] اختزن الأخ قبل أن يفقد نظره كثيراً من الصور والمشاهد والمرئيات ، ليحتفظ بها للأبد وكأنه أدرك اقتراب تراجيديا الخاتمة . لم يقل شيئاً ، اكتفى بالصمت ولم يوجه غير نداء لأخيه كي يقوده للمكان الذي يتخذه مستقراً له ، واجه مصيره بهدوء ورضا بهيئة من ألف عماه من سنين .

لم ينس مكانة اليد في الفكر منذ انجلز وحتى ميروبونتي ، فاستعاد دورها ولكن بشكل متساو ، كما لو كانت متعطلة تماماً ، لأن القاص يعرف جيداً اقتران اليد بالعين وكلاهما مع العقل . حيوية الاثنين ودليل على قوة العقل .
اطلعنا على تفاصيل شخصيات الصورة ، وأدركنا بأنها اختصرت الفجيعة والمأساة . فتأتي أخرى وتبدو أكثر عطلاً وعزلة ، لكنني وجدت بأن خليل هو الأكثر تراجيديا وخسارة ثقافية / واجتماعية ، ومعرفة للعزلة المخيفة ، لأنه عاشها بدقائقها التفصيلية وهو لما يزل حياً بسبب خطورة المرض وعدواه . وبسبب هذه الوحدة والعزلة الاجتماعية والنفسية حاول محمود عبد الوهاب ترميم شخصية خليل قليلاً ، فكشف عن سردية خاصة بعلاقة حب مع سيدة في مدينة براغ ، سردية توفر له وللراوي إحساساً بالرعشة لحظة تحقق الاستعادة لما حصل في الماضي الذي هو أنا/ الذات [ مات خليل وتبعته أمه العجوز بعد أقل من سنة ، وباع أخوه الدار وقد اتخذ منها المالك الجديد شققاً لمكاتب ومطعماً عصرياً ومخزناً لبيع أطر السيارات .... ص45 ] .
الماضي في الفوتوغرافيا سرديات متخيّلة ، استعادتها الذاكرة وتعايشت معها وسط زمن آخر ، هو الحاضر الذي لم يكن إلا من خلال إعادة النظر للفوتوغرافيا واكتشاف اليومي الحاضر ، مازال مألوفاً وأعلنت عنه القصة في لحظة ارتفاع الحمى وانفتاح الحلم على الفوتوغرافيا / الماضي والحاضر المألوف [ تدق ساعة البرج بصخب ، ينقطع الضجيج فجأة ، ويبدأ كمال وخليل وعبد الواحد وأخي يتكلمون من دون حدوث صوت ، ثم يواصلون سيرهم مع المارة ، يهزون رؤوسهم ويلوّحون بأيديهم ، يعبرون الجسر ، ويدخلون المخازن ، يخرجون منها ... ص73 ] .
إقفال القصة لدى محمود عبد الوهاب أمر في غاية الأهمية الفنية ، يختارها بدقة وهدوء ، لكنه يطمح من دقة الهدوء فوران الشعرية واتساع الدلالة وأعتقد بأن إقفاله لهذه القصة هو الأنموذج للعتبة الأخيرة . ويثير هذا الختم النهائي عدداً من الإشارات الفنية : أولاً ، منح الأصدقاء حضوراً جديداً في أماكنهم الظاهرة في الصورة ، بمعنى أن الفوتوغرافيا سجلت لحظة حاضرة وصارت ماضياً بالإمكان استعادته .ومنحه الحضور الحيوي . ثانياً : أستحضرهم القاص جميعهم ، لأنه محكوم بالفوتوغرافيا ، الوسيط السردي الذي انشغل به محمود عبد الوهاب بوقت مبكر ولا يمكن تفكيك الصورة في اللحظة التي استدعاها القاص مرة ثانية حتى الأخ الحي استعادته الذاكرة ومصير الحضور التخيّلي . ثالثاً : الحلم غير مستقر ، والأموات تصرفوا بآلية تعارف عليها الجماعات إنهم لا يتحدثون بحضورهم الجديد ، ليس هذا فقط ، بل ضغط عليهم القاص كثيراً [ ... يدخلون المخازن ، يخرجون منها ، يبتعدون حتى تبدو رؤوسهم كرؤوس الدبابيس ، تنبسط المسافات ويتناقصون كما لو أن الأرض أخذت تمتصهم واحداً بعد الآخر ... ص45 ] .
إن مثل هذا التخيّل أو الرؤية نتاج حلميّة واضحة ، مثلما هو إشارة على القطيعة الكاملة بين الطرفين ، الذي ظل حياً والميت . وكان قاسياً عندما [ نظر من شرفته على رأس راكب الدراجة تراءى له مثل دويدة خيطية تتحرك سائبة في كل اتجاه ، وجسد الدراجة يتوهج في البرق الفضي المنبعث من أسفل الشارع حتى بدى له راكب الدراجة ، من أعلى ، كأنه يمتطي سحابة مشعة ... ص73] . القصة جيدة ، لأن القاص اخترق الرتابة في السرد واستثمر الفوتوغرافيا وقدم قصة ممتازة مثلما استثمر السينما وكتب قصة ناجحة " توليف " والفوتوغرافيا " سيرة " وأضفى على قصتيه فضاءً مغايراً ومختلفاً .
اختار القاص نهاية غرائبية ولأول مرة يحصل هذا لديه ، وأعتقد بأنها نهاية جميلة ـ كما قلت ـ أفضت الى وحدة كاملة للمصائر الفردية للشخصية على الرغم من بقاء عبد الواحد حياً ، لكنه ميت مجازياً . منحهم حضوراً تخيلياً على الرغم من تعطل الكينونات في الزمان الذي ظل معلناً عن وجود واستمرارية حيث [ دقت ساعة البرج بصخب ، ينقطع الضجيج فجأة ، ويبدأ كمال وخليل وعبد الواحد وأخي يتكلمون من دون صوت ... ص 45 ] 
أوهم القاص المتلقي وأربكه ، أقلقه واضطره للسؤال عن إمكان استمرار ثنائية الميت والحي . وأضفى عبد الواحد شيئاً من اللا معقول كما قلنا ، في أن يكون الحي مع الميت للدلالة على عطل الحي ، وأعتقد بأن عبد الواحد ، الحي لم ترد له إشارة على أنه ميت ، لكن ما قاله إقفال القصة بأنه ميت معنوياً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

مقالات ذات صلة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع
عام

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

علي بدركانت مارلين مونرو، رمزاَ أبدياً لجمال غريب وأنوثة لا تقهر، لكن حياتها الشخصية قصة مختلفة تمامًا. في العام 1956، قررت مارلين أن تبتعد عن عالم هوليوود قليلاً، وتتزوج من آرثر ميلر، الكاتب المسرحي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram