قصة " سيرة " محاولة لاستثمار الفوتوغرافيا في اقتراح محيط إطاري لخمسة شخوص مركزية ، استطاعت الفوتوغرافيا تحضير ذاكرة الراوي للحديث عن " كمال / خليل / عبد الواحد / أحمد / ومصطفى " ولم يبق حياً منهم سوى أحمد . واجه كل واحد منهم تراجيديا خاصة ، وكان المو
قصة " سيرة " محاولة لاستثمار الفوتوغرافيا في اقتراح محيط إطاري لخمسة شخوص مركزية ، استطاعت الفوتوغرافيا تحضير ذاكرة الراوي للحديث عن " كمال / خليل / عبد الواحد / أحمد / ومصطفى " ولم يبق حياً منهم سوى أحمد . واجه كل واحد منهم تراجيديا خاصة ، وكان الموت مصيرا عاجلا للجميع ، لكن طريقة تحققه متباينة بين واحد وآخر . قصة " سيرة " عبر الفوتوغرافيا فرصة الراوي كي يتحدث عن الأشخاص وأزمنة مشتركة بينهم منذ لحظة التقاط الصورة عام 1942 .
أزمنة معبر عنها عبر الأزياء وموجودات الفضاء العام الملاحق من قبل الراوي بوصف سريع ودال : [ إن قدم الزمن الذي التقطت فيه باد من ياقات سترهم العريضة ، وبناطيلهم الفضفاضة ذات الكفة العريضة عند القدمين ، وأربطة أحذيتهم المعقودة ، على شكل جناحي الفراشة ، المتدلية النهايات عند الجوانب ، وتسريحات شعورهم المرتدة الى الخلف بشدة ، ومن طراز الأبنية الشرقية ذات الطابقين ، والساعة الكبيرة في البرج الخشبي الشاهق ، التي كانت أرقامها اللاتينية باهتة وعقرباها يشيران الى ما بعد منتصف النهار بعد قليل ، ومن سعة المقهى ومداخل المخازن والزورق البخاري الارستقراطي الذي كان راسياً عند نهاية السلم الإسمنتي ، ومن القوارب بأفرشتها المزركشة التي تظهر وراءهم . كان الزمن يحتفظ بطابعه .... ص41 ] هذا الكشف الانثربولوجي الدقيق للمكان وتفاصيل العمارة والمجاور لها مثل المقهى والمخازن والقوارب المفروشة . وبعد الوصف الدقيق يركز محمود عبد الوهاب : [ كان الزمن يحتفظ بطابعه ] . ولا أعتقد بأن الفوتوغرافيا السائدة في بداية الأربعينات التي تحتفظ بكل الذي قاله الراوي . الا ان القاص راغب في الوصف والتسجيل وكان اهتمامه الفني بالفوتوغرافيا هو الذي جعله أكثر حماساً لذلك ، ليكشف عن جانب مهم من ثقافته إضافة الى السينما كما في قصة " توليف " . ولأن الراوي محكوم بنوع معين من النهاية التراجيدية ، اهتم بوضوح بشخصية أخيه أحمد ، فجعل منه مركزاً في الفوتوغرافيا إضافة للمحيط الموصوف ، ربما لأن نهاية أحمد مغايرة ومختلفة تماماً ، لأن الفلسفة تمركزت حول اليد والعين ، واختار الراوي فاجعة أحمد الذي فقد نظره سريعاً وبطريقة غريبة . أحمد هو المركز أو القطب الذي سلط الراوي عبره الضوء على الشخوص الأخرى . قلنا بأن الموت مصير كل واحد منهم ، هكذا دائماً شخوص محمود عبد الوهاب التي دائماً ما تكون محاصرة بعزلة موحشة أو ملاحقة بالموت ، هذه التراجيديا الأزلية التي انشغلت بها الأسطورة والملاحم ، [ كان أخي أوضحهم في الصورة ، وقد بدت وجوه المارة خلفه ، ممحوة أو ملتبسة . كان بريق عينيه يزداد تألقاً كلما تأملته مدة أطول ، كما لو أن عينيه اللتين فقدتا البصر فيما بعد بسبب الارتفاع المفاجئ لضغط الدم ، كانتا تحاولان أن تمسكا بأكبر قدر من المشاهد والصور والمركبات قبل أن تقع محنته . حدث ذلك في صباح أحد الأيام بعد سنين من تاريخ الصورة . فجأة ، وهو يصب الماء على وجهه من حنفية المغسلة تحت السلم . ناداني مرتبكاً ، وبحركة آلية تقدمت إليه . لا أدري كيف استسلمت لمصيره من دون ضجة . تناولت ذراعه وسرنا معاً ، أنا أمامه ، وهو منقاد إليَّ بانكسار متخذاً من مشيته هيئة من ألف عماه من سنين .... ص42 ] اختزن الأخ قبل أن يفقد نظره كثيراً من الصور والمشاهد والمرئيات ، ليحتفظ بها للأبد وكأنه أدرك اقتراب تراجيديا الخاتمة . لم يقل شيئاً ، اكتفى بالصمت ولم يوجه غير نداء لأخيه كي يقوده للمكان الذي يتخذه مستقراً له ، واجه مصيره بهدوء ورضا بهيئة من ألف عماه من سنين .
لم ينس مكانة اليد في الفكر منذ انجلز وحتى ميروبونتي ، فاستعاد دورها ولكن بشكل متساو ، كما لو كانت متعطلة تماماً ، لأن القاص يعرف جيداً اقتران اليد بالعين وكلاهما مع العقل . حيوية الاثنين ودليل على قوة العقل .
اطلعنا على تفاصيل شخصيات الصورة ، وأدركنا بأنها اختصرت الفجيعة والمأساة . فتأتي أخرى وتبدو أكثر عطلاً وعزلة ، لكنني وجدت بأن خليل هو الأكثر تراجيديا وخسارة ثقافية / واجتماعية ، ومعرفة للعزلة المخيفة ، لأنه عاشها بدقائقها التفصيلية وهو لما يزل حياً بسبب خطورة المرض وعدواه . وبسبب هذه الوحدة والعزلة الاجتماعية والنفسية حاول محمود عبد الوهاب ترميم شخصية خليل قليلاً ، فكشف عن سردية خاصة بعلاقة حب مع سيدة في مدينة براغ ، سردية توفر له وللراوي إحساساً بالرعشة لحظة تحقق الاستعادة لما حصل في الماضي الذي هو أنا/ الذات [ مات خليل وتبعته أمه العجوز بعد أقل من سنة ، وباع أخوه الدار وقد اتخذ منها المالك الجديد شققاً لمكاتب ومطعماً عصرياً ومخزناً لبيع أطر السيارات .... ص45 ] .
الماضي في الفوتوغرافيا سرديات متخيّلة ، استعادتها الذاكرة وتعايشت معها وسط زمن آخر ، هو الحاضر الذي لم يكن إلا من خلال إعادة النظر للفوتوغرافيا واكتشاف اليومي الحاضر ، مازال مألوفاً وأعلنت عنه القصة في لحظة ارتفاع الحمى وانفتاح الحلم على الفوتوغرافيا / الماضي والحاضر المألوف [ تدق ساعة البرج بصخب ، ينقطع الضجيج فجأة ، ويبدأ كمال وخليل وعبد الواحد وأخي يتكلمون من دون حدوث صوت ، ثم يواصلون سيرهم مع المارة ، يهزون رؤوسهم ويلوّحون بأيديهم ، يعبرون الجسر ، ويدخلون المخازن ، يخرجون منها ... ص73 ] .
إقفال القصة لدى محمود عبد الوهاب أمر في غاية الأهمية الفنية ، يختارها بدقة وهدوء ، لكنه يطمح من دقة الهدوء فوران الشعرية واتساع الدلالة وأعتقد بأن إقفاله لهذه القصة هو الأنموذج للعتبة الأخيرة . ويثير هذا الختم النهائي عدداً من الإشارات الفنية : أولاً ، منح الأصدقاء حضوراً جديداً في أماكنهم الظاهرة في الصورة ، بمعنى أن الفوتوغرافيا سجلت لحظة حاضرة وصارت ماضياً بالإمكان استعادته .ومنحه الحضور الحيوي . ثانياً : أستحضرهم القاص جميعهم ، لأنه محكوم بالفوتوغرافيا ، الوسيط السردي الذي انشغل به محمود عبد الوهاب بوقت مبكر ولا يمكن تفكيك الصورة في اللحظة التي استدعاها القاص مرة ثانية حتى الأخ الحي استعادته الذاكرة ومصير الحضور التخيّلي . ثالثاً : الحلم غير مستقر ، والأموات تصرفوا بآلية تعارف عليها الجماعات إنهم لا يتحدثون بحضورهم الجديد ، ليس هذا فقط ، بل ضغط عليهم القاص كثيراً [ ... يدخلون المخازن ، يخرجون منها ، يبتعدون حتى تبدو رؤوسهم كرؤوس الدبابيس ، تنبسط المسافات ويتناقصون كما لو أن الأرض أخذت تمتصهم واحداً بعد الآخر ... ص45 ] .
إن مثل هذا التخيّل أو الرؤية نتاج حلميّة واضحة ، مثلما هو إشارة على القطيعة الكاملة بين الطرفين ، الذي ظل حياً والميت . وكان قاسياً عندما [ نظر من شرفته على رأس راكب الدراجة تراءى له مثل دويدة خيطية تتحرك سائبة في كل اتجاه ، وجسد الدراجة يتوهج في البرق الفضي المنبعث من أسفل الشارع حتى بدى له راكب الدراجة ، من أعلى ، كأنه يمتطي سحابة مشعة ... ص73] . القصة جيدة ، لأن القاص اخترق الرتابة في السرد واستثمر الفوتوغرافيا وقدم قصة ممتازة مثلما استثمر السينما وكتب قصة ناجحة " توليف " والفوتوغرافيا " سيرة " وأضفى على قصتيه فضاءً مغايراً ومختلفاً .
اختار القاص نهاية غرائبية ولأول مرة يحصل هذا لديه ، وأعتقد بأنها نهاية جميلة ـ كما قلت ـ أفضت الى وحدة كاملة للمصائر الفردية للشخصية على الرغم من بقاء عبد الواحد حياً ، لكنه ميت مجازياً . منحهم حضوراً تخيلياً على الرغم من تعطل الكينونات في الزمان الذي ظل معلناً عن وجود واستمرارية حيث [ دقت ساعة البرج بصخب ، ينقطع الضجيج فجأة ، ويبدأ كمال وخليل وعبد الواحد وأخي يتكلمون من دون صوت ... ص 45 ]
أوهم القاص المتلقي وأربكه ، أقلقه واضطره للسؤال عن إمكان استمرار ثنائية الميت والحي . وأضفى عبد الواحد شيئاً من اللا معقول كما قلنا ، في أن يكون الحي مع الميت للدلالة على عطل الحي ، وأعتقد بأن عبد الواحد ، الحي لم ترد له إشارة على أنه ميت ، لكن ما قاله إقفال القصة بأنه ميت معنوياً .