يمتلك البيان التأسيسيّ لمدرسة البوهاوس الشهيرة أهمية خاصة. فلأول مرة منذ عصر النهضة يجرى الإعلان الواضح بعدم وجود فارق بين الفنون الكبرى (العمارة والرسم والنحت) والفنون الصغرى (الحرف اليدوية كالنسيج والخزف). أو بعبارة أخرى لا فوارق جوهرية بين الفنان والحرفيّ. كلا المفردتين في اللغات اللاتينية يخرجان من أصل واحد (artiste, artisan)، وليس هذا هو الحال اشتقاقياً في الألمانية.
فحوى هذا البيان المقتضب، صار حدثاً كبيراً في وعي القرن العشرين وفي ذاكرة قرننا. وإذا ما قبلنا اليوم قبولاً بديهياً اعتبار السيراميكيّ فناناً بالمعنى العميق للكلمة، فقد تمّ الأمر بفضل مؤسِّس البوهاوس. قبل هذا البيان، لم يكن أحد تقريباً ليقبل بإلغاء الفوارق بين النشاط البلاستيكيّ المعتبَر راقياً وصافياً، والنشاط الحرفيّ المعتبَر نشاطاً تقنياً من الدرجة الثانية. لم نقرأ البيان في العربية إلا بترجمة غير معروفة مشكوك بمفرداتها الأصلية المحسوبة بدقة، وعلى رأسها مفردة (construction) التي تردّدنا نحن أيضا في اختيار الإنشاء والبناء والبنية لها، مفضليّن البناء، مميِّزين إيّاها عن فن البناء batîr. كان الأمر يتعلق بالنسبة لمعماريّ مثل والتر غروبوس، مُدبِّج البيان، بالعمارة في المقام الأول التي هي فن البناء دون شك. لكنه يتحدث عَبْر العمارة عن (الخبرة savoir-faire) التي على الفنان والحرفيّ كليهما اكتسابها. مفردة الخبرة دالة لأنها، بالفرنسية، مركَّبة، وتتكوّن حرفياً من (معرفة- عمل).
لعلّ هذا البيان من أقصر البيانات في تاريخ الفن العالميّ، حيث لا تتجاوز عدد كلماته بالفرنسية أكثر من 330 كلمة. وهو يستحق أن نقدّمه لقرّاء المدى ومتابعيها:
"الهدف النهائي من كل نشاط تشكيليّ هو البناء!. كان تزيين هذا البناء في الماضي، هو المهمة الأكثر تمايُزاً للفنون التشكيلية، التي هي الأجزاء المكوِّنة لفن البناء الكبير والتي لا يمكن فصلها عنه. اليوم تتمتع هذه الأجزاء باستقلالية تستطيع إظهارها كلها للعيان عبر عمل تعاونيّ، واعٍ ومشترَك من طرف ممثِّلي جميع أصناف الحرف. على المعماريين والرسّامين والنحّاتين أن يعاودوا تعلُّم معرفةِ وفهمِ كيف يأخذ البناء شكلاً مُرَكّباً، في المجموع وفي أجزائه، حينها ستمتلئ أعمالهم نفسها، من جديد، بالروح المعماريّ الذي افتقدته في فن الصالون.
لم تستطع مدارس الفن القديمة إنتاج هذه الوحدة، وكيف لها فعل ذلك طالما لم يكن الفن ملائماً للتعليم؟. يجب عليها اليوم أن تتوجّه ثانية صوب الورشة. على عالم المصمّمين والرسّامين أن يعود إلى فن البناء batîr. عندما يبدأ الشباب المغرمون بالنشاط التشكيليّ، كما كان الحال في السابق، بالتمرين على حرفةٍ ما، فإن " الفنان غير المُنتِج" لن يكون محكوماً عليه في المستقبل بنشاط مصطنَع غير مُكتمِل. عندما يكتسب مهارته عبر النشاط الحرفيّ فإنه يستطيع إنجاز أعماله الجليلة.
نحن المعماريين والنحّاتين والرسّامين علينا العودة جميعاً إلى العمل اليدويّ لأنه لا يوجد (فن احترافيّ professionnel). جوهريّاً، لا يوجد أيّ فارق بين الفنان والحرفيّ. الفنان ليس سوى حرفيّ مُلْهَم. بفضل نعمة السماء صار عمل يديه، في لحظاتِ إشراقٍ نادرة وبعيداً عن إرادته وبشكل لا واعٍ، فناً، لكن لا مندوحة لكلّ فنان عن أساس الخبرة (savoir faire). إنها أصل الإلهام الخلاق.
لنكوِّن إذنْ، شراكة جديدة من الحرفيين بدون غطرسة الفئات المنفصلة التي أقامت حائطاً من الكبرياء بين الحرفيين والفنانين. لنُرِدْ ولنتصوّرِ ولنبدعْ سوياً البناء الجديد للمستقبل، الذي سيضمّ الكلّ في شكل واحد: العمارة والتشكيل والرسم والذي سيرتفع بأيادي الملايين من الحرفيين نحو سماء المستقبل رمزاً بلورياً للإيمان الآتي. والتر غروبوس، فايمار، افريل 1919".
البيان التأسيسيّ لمدرسة البوهاوس
[post-views]
نشر في: 14 يونيو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
يوسف التاصر
اخي شاكر ، تحية طيبة ن شكرا لمقالك المفيد والجميل ، قد تكون ترجمة construction في بعض الحوال المفيدة، وربما هنا ، هي التكوين . شكرا لك يوسف الناصر
يوسف التاصر
اخي شاكر ، تحية طيبة ن شكرا لمقالك المفيد والجميل ، قد تكون ترجمة construction في بعض الحوال المفيدة، وربما هنا ، هي التكوين . شكرا لك يوسف الناصر