TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أغنية على الخرائب

أغنية على الخرائب

نشر في: 14 يونيو, 2013: 10:01 م

ما اعمق قدرتنا كبشر على الترميز، ففضلاً عن دورها في خلق اللغة، فهي أيضاً تلبي لدينا حاجات نفسيّة واجتماعية مهمّة. كما هو الحال مع إعطائنا الأشياء التي تخصّنا أبعاداً معنوية كثيرة، فوق أبعادها الطبيعية. فبيوتنا تختلف عن باقي البيوت، وكذلك عوائلنا، وأقاربنا، الأمر الذي يساعدنا على إقامة علاقة عاطفية مع أشياءنا الخاصة، لنعمل بمرحلة تالية على رعايتها والاهتمام بها، فتتكون خصوصياتنا. لا فرق بين بيت الواحد منّا وبين بقية البيوت، لكن بيت كل منّا يرمز إلى أشياء كثيرة، عزيزة ومهمّة وجميلة، ما يجعله مميّزاً بالنسبة لنا. وسابقاً تغنّى العرب بأطلالهم، في حين أن هذه الأطلال لم تكن، أكثر الأحيان، غير مواقد النار التي تبقى بعد رحيل القبائل الرُحَّل!
يشكّل موت الأحبّة، بالنسبة للإنسان صدمة مريعة، مع أنه أمر متوقع بالنسبة له، وهو لذلك حاول التحايل عليه من خلال جملة من الفعاليات الرمزيّة، فهو يحتفظ بأشياء موتاه، مع أنها أشياء كباقي الأشياء، لكنه يعطيها بعداً رمزياً يجعلها أكثر أهمية. فملابس الميت، قماش كباقي الأقمشة، وكذلك خاتمه، ونظاراته. إن احتفاظنا بمثل هذه المقتنيات يمثل عملية تحايل، رمزية، على صدمة الموت، نحن نحاول أن نُبقي موتانا أحياء بيننا من خلال مقتنياتهم. لا بل الموضوع يأخذ بعداً أكثر رمزية من خلال شواهد القبور. فأجساد الموتى غير قابلة للبقاء، لذا لا بد من دفن الميت، لكننا نبني شاهداً على الموقع الذي تم فيه الدفن، لأننا لا نريد لهذا الميت أن يغادر حياتنا بشكل تام، فنُبْقي له شاهداً يقاوم الاندثار أكثر من جسده، العملية أشبه برياضة شد الحبل بيننا وبين الموت، فهو يحاول أن يسلبنا أحبابنا، ونحن لا نسمح له إلا بأخذ ما لا نستطيع الاحتفاظ به منهم.
الهياكل التي تُقام على قبور العظماء، تقع في هذا السياق، فحضارة بدون عظماء لا يمكن أن تكون حيَّة ومثمرة، لأن وجودهم يؤدي وظيفة ترسيخ القيم النبيلة بين الناس، لكن الموت يسلبنا هذه الوظيفة المهمّة، لذلك ننتصر عليه عندما نبني الهياكل والشواهد الكبيرة على قبورهم. والنكتة العجيبة بهذا الموضوع، أن تأثير العظماء، بعد موتهم، ومن خلال مراقدهم، لا يقل شأناً عنه قبل موتهم، بل ربما التأثير يزداد، فوجود العظيم بيننا قد يعرضه للخطأ، فتقل مكانته بيننا. لكن حضوره الرمزي يكون مثالياً؛ لأنه حضور خال من الأخطاء.
إذاً هل ننتصر على الموت من خلال قدرتنا على الترميز؟ أعتقد بأن الجواب على هذا السؤال يتجلى بمدى تأثير الموتى في حياتنا، فهل للموتى تأثير كبير علينا نحن الأحياء؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قاسم عبد اللة

    تحليل واقعي رائع لفلسفة بناء الاضرحة ... لقد ابدعتم في ايصال الفكرة .... بارك اللة فيكم وفي فكركم النير .

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram