لم تخلُ قضية مهرجان "مفكرة السيد سعدون الدليمي" من بعض الفكاهة والسذاجة إن لم نقل "مضحكات"، فهي فاقت كثيراً ما عاناه عمنا المتنبي حين وصف هذا النوع بأنه ضحك كالبكاء.. ومن هذه المضحكات ما خرجت علينا وزارة الدفاع وهي تروي لنا الحكاية التي هزت العراق خلال الأيام الماضية وأعني بها ضياع مفكرة "السيد الوزير".
ومثل فيلم ميلودرامي طويل لم يهتم أحد بالحبكة ولا بتفاصيل الشخصيات ولا بالمكان والزمان، ولا بأي شيء سوى أن يظهر مسؤولوا الوزارة، ليقولوا لنا إن الله كان رفيقا بالعراقيين، ولم تختف مفكرة الدليمي التي بها أسرار الدولة العراقية .. ولهذا كان لابد من متهمين يضربون ويعتقلون، بينما كلمة النهاية تكتب بنفس الخط الرديء الذي كُتب به اسم الفيلم.
ولأن الحكاية لم تنته ، فإن الفصل الأكثر فكاهةً فيها هو الرد الذي تفضلت به وزارة الدفاع مشكورة حول تساؤلات أهالي المعتقلين.. فالوزارة اعتبرت أن المفكرة أثر وطني مطلوب منا جميعا أن نفديه بأرواحنا وأن نحافظ عليه في حدقات العيون، وعلى العراقيين أن يخرجوا وهم يحملون أرواحهم على أكفهم جهادا من اجل أن يعاقب كل من تجرأ ولمس هذه المفكرة المقدسة، مع البيان الثوري لوزارة الدفاع، يحتاج الأمر منا جميعا إلى قدرة هائلة على تمالك أعصابنا قبل أن نموت من القهر والغيظ، فالوزير الذي أضاع مفكرته بجلسة سمر، اكتشف مؤخرا أنّ مجموعة من اللصوص سطوا عليها، بينما كان مشغولا بحوار حول "المصالحة الوطنية" وأهمية ان يعود مشعان الجبوري إلى الصف الوطني.. ولهذا فبيان الوزارة يريد ان يوهمنا ان "المفكرة" جزء من إنجازات أمنية كبيرة، قدمها السيد الدليمي إلى العراقيين، ولهذا فإن محاولة سرقتها تصب في خانة نكران الجميل، التي يتمتع بها العراقيون كافة، والإعلاميون بوجه خاص، حين ينظرون بعين الحسد والحقد إلى مسؤوليهم.
الوزير وقع في الخطأ منذ اللحظة التي لم يستطع فيها المحافظة على مفكرة، يقولون إنها تحمل أسراراً حكومية مهمة.. والسؤال كيف تمت معالجة خطأ السيد الوزير؟
ليس من دواعي المقارنة أن نقول لو أنّ هذه الحادثة جرت في بلد آخر، لأجبر الوزير على تقديم استقالته.. فما جرى هو فضيحة سياسية ، ففي بلدان العالم المتحضرة، سنجد الإعلام يسخر من الوزير الذي لم يستطع أن يحافظ على مفكرته، فكيف سيتسنى له الحفاظ على أمن البلاد وأسرارها؟! كم مرة قرأنا كيف تسنى للإعلام في دول الغرب، أن يتسلى بأسرار كبار رجال الدولة، لأنهم وقعوا في أخطاء بسيطة ، لذلك لم تنم أميركا ذلك اليوم حين اكتشفت أنّ احد جنرالاتها "بترايوس" على علاقة بامرأة ، وان هذه السيدة ربما تمكنت من الاطلاع على مفكرته الشخصية.
هكذا يسقط كبار الساسة، في سلاح الإهمال، لذلك قال نابليون ذات يوم لأحد جنوده : إياك والإهمال فهو أول الطريق لخسارة الحرب، لو حدثت قصة مفكرة السيد سعدون الدليمي في بلد ديمقراطي حقيقي، لكانت تحولت إلى رواية من روايات الصحافة ، لكنها حصلت في زمن "مختار العصر" حيث لا صوت يعلو على صوت المسؤول.
تخيل كل هذه القصص ، ثم حاول أن تتصور الإعلام الأميركي.. لن ينام ، ولن يترك أحدا ينام.. لا أدري كم ألف مرة تكررت صورة بترايوس، وهو يعلن استقالته، لأنه غير جدير بثقة الأمريكان والسبب مفكرة بحجم مفكرة السيد سعدون الدليمي!
ما أدهشني وأحزنني في قضية مفكرة الوزير، أنّ القانون الذي يفترض أنه وضع من أجل الجميع، وعلى كل فرد واجب تنفيذه، من رئيس الوزراء، إلى الوزير، إلى المواطن.. نجد من يعلنون أنفسهم أنهم فوقه ويتربعون على انفاسه.
للأسف اليوم قلة الكفاءة، وعدم احترام قواعد الديمقراطية يعيدان العراق إلى العصور البدائية، والتصورات السلطوية تعيد مسؤولينا ومستشاريهم إلى ما قبل دولة المؤسسات.
من الواضح أننا اليوم أمام طريقة مختلفة في التعامل مع المواطنين، طابعها الخشونة والرعونة والتهور، خصوصا أن البعض يصور ما حدث في ضياع مفكرة الوزير، على أنه مؤامرة من "أعداء الوطن" الذين يتداولون أفكارا وطروحات حول الفساد والمفسدين، وغير ذلك من مفردات أطلقتها وزارة الدفاع.
فيلم "المفكرة" لم ينته بعد لأنه أظهر لنا أن أنصار دولة الاستبداد على أسس "الزعيم الأوحد" أكثر مما نتوقع، وظهر أيضا أن أساطير السادة المسؤولين عن أنفسهم تجاوزت الحد المعقول ، وان مفهوم السيطرة على البلاد والعباد ، سيكون بديلا لمشروع الإصلاح وتقديم الخدمات، وأن حل مشاكل العراق يكمن في اعتقال صحفيين تجرآ، ووجدا مفكرة السيد الوزير المفقودة، والمهم أن البعض يريد لنا ان نعيش عصر استعراض العضلات، لانهم يعتقدون أنّ التغيير الذي حصل عام 2003، قام من اجل تنصيب وحش جديد للشاشة العراقية.