TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > المطر، تنويع

المطر، تنويع

نشر في: 16 يونيو, 2013: 10:01 م

نحن في نهاية أيار والبرد ناشط. كانت حين تُمطر يجفل البردُ ويخفّ. ولكنه الآن ناشطٌ حتى مع المطر. أخرجُ حيناً خطوتين خارج باب البيت لأختبره، علّني واهمٌ بأن جدران البيوت في هذه البلاد عادة ما تحتفظ برطوبة لا سبيل إلى تحاشيها. ولأني أسيرُ جدران لا أغادرها إلا مضطراً، فإن بردَ الرطوبة أصبح نسيجاً في جلدي. هكذا أحب أن أتوهم أحياناً. ولكن هذه الأحيان سرعان ما تخيّب ظني. فالبردُ يلاحق الناس أيضاً. أراهم، وقد أحكموا على أجسادهم الدثار، يعبرون واجهة البيت، وشفاههم لا تكف عن الحركة. هل يشكون كما أشكو، وبصوت يخصُّ آذانَهم وحدها، ضمائرَهم وحدها؟
حين أجلس في مبنى الملحق نصف الزجاجي، المُطل على الحديقة الخلفية، أشعر بالسلوان. لأني أرى المطرَ رؤيةَ العين، بالغَ الصفاء، رتيباً. ينهمر على الأشجار، على شتلات الورد التي لم تُزهر، والأعشابِ بوداعة من سمع نداءاتها فاستجاب. وأشعر بالسلوان لأني أسمع وقعَ المطر سمْع الأذن، ضاجّاً ولكن ضجيجَ وتريّات وخشبيات، لا ضجيج طبول. وأقول وقعه، لأني حين أسمع ضرباتِ قطراته على السطح الزجاجي أسمعُ نبضاً سماوياً عبر مكبرات صوت. أجلس هناك فأثمل، ويدب بي الخدر. المطر يصل المجهولَ بالمعلوم، السماويَّ بالأرضي، ماوراء الطبيعة بالطبيعة، اللامرئي بالمرئي. وهذا الوصلُ يبعث الروع والنشوة لا شك، لأنه يُشعر الإنسان المرهف بأنه موصول بالكون الرحب وصلاً مشيمياً. وأنه ليس قشة زمنية زائلة. ولذا يدبُّ بفعل هذا الإحساس ضربٌ من الكآبة لا تفسير له إلا هذا الشعور بالتماس مع المجهول. هذا هو جوابي على تساؤل الشاعر السياب: "أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر؟". سحرُ المطر جعل السياب يكرره ثلاثاً في قصيدته الشهيرة. والغريب أن هذا التكرار الثلاثي يتكرر هو الآخر في قصائد إنكليزية عديدة. والسياب غريزي بامتياز، يجعلك تحسب للتكرار هذا حساباً، كما أفعل مع مياهه الجوفية، وعالمه السفلي، وقمره، وبرقه.. وهذا المطر طبعاً.
كان السومريون يسمّون المطر "حيامنَ الآلهة"، لأنه يُخصب الأرض، ويبعث تموز من العالم السفلي. ولا غرابة، إذا فهمنا البعد الأسطوري لحياتنا الأرضية، أن نرى الكتّابَ والشعراءَ ومخرجي السينما يستعينون بالمطر لبعث فورة الغريزة المباركة. من قرأ روايةَ ماركيز "مئة عام من العزلة" لابد يتذكر كيف أن رجلاً ابتنى لبيته سقفاً من الألمنيوم فقط ليُصغي إلى صوت وقع المطر، وهو في غمرة ممارسة الجنس مع زوجته. وقد يتذكر مشهداً في قصيدة قديمة لنزار قباني، يصف فيه الخلوةَ الشهوانيةَ بين امرأتين: "مطرٌ، مطرٌ/ وصديقتُها معها/ ولتشرينَ نواحُ./ والبابُ تئزُّ مفاصلُه/ ويعربدُ فيه المفتاحُ." ولا شك أن المطر أكثر من مألوف في مشاهد الجنس السينمائية.
يُقول العلمُ الحديث إن الصوتَ المتواتر للمطر يؤثر على موجات المخ تأثيراً مباشراً. ولأن للمخ مجسّاتٍ بالغةَ الحساسية ومتنوعة، فالتي تستجيب لصوت المطر تثير فيه حالةَ استرخاء عميقة، تحرره من الأحاسيسِ الضحلةِ التافهةِ التي تُمليها عليه الحياةُ اليومية. ولذلك يبدو صوتُ المطر هذا لبعض الكتاب "شعرَ الطبيعة، وما صوته إلا الموسيقى الداخلية لهذا الشعر."
تعبر هذه التأملات بي وأنا أجلس في المبنى نصف الزجاجي، دون بقية من مشاعر البرد التي كانت تأخذ بخناقي. لأن المطرَ يرفعُ المرءَ من أرضِ الحرارة والبرودةِ إلى أفقِ التواصلِ مع قواه المجهولة. هناك يتلمّس عمقَ كيانه كإنسان. وما الأسى الذي يستشْعره إلا وليد يقظةٍ خاطفةٍ على تلك القوى الخفية فيه، التي جعلت الشاعرَ السياب يعرف حزنَ المطر، ويسمع نشيجَ المزاريب إذا انهمر، ويشعر بالوحدة التي توصله إلى ضياع لا نهائي. هذا اللانهائي يشخّصه بـ "الحب"، و"الأطفال"، و"الموتى". وكأنها أقانيم وجود غير أرضي، يتراءى للشاعر في لحظة وحدته الكبيرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram