ليس هذا هجاء لرجال الدين، بل لسياسة مدنّسة تدوس مقولات مقدّسة. ومحنة المثقف المدني والديني معا داخل سعير التشدّد. فبين ليلة وضحاها صار شغل المثقف العربي ان يتدخل سعياً لفضّ "سوء فهم" بين كائنات تعيش في اسوأ حلقات الخلاف اللاهوتي المضلّل. بات عليه ان يقوم بركن أبحاث علم الاجتماع وتأريخ الأفكار ونسيان أحلام قاسم أمين بتحرير المرأة، ليتجاهل دعوة جمال الدين الأفغاني للتصالح مع المعرفة الحديثة، ولا يتذكر ثانية انشغال رموز عصر النهضة بتطوير النثر واللغة وتيسيرهما كمدخل لفهم عالم مختلف وسريع. عليه ان يغادر أحلام أسلافه ليشمر عن ساعديه ويحاول إطفاء ثيابه التي تحترق، ويسعى لإقناع حملة مشاعل النار المتأهبين بأن يجلسوا لحظة للمصارحة لان الحكاية لا تستاهل ان نحرق حلب الكبرى ودمشق العروبة وكل غابات الزيتون قرب سواحل المتوسط، وأن السياسة المدنسة تعبث بالمقولات المقدسة.
على المثقف ان يطوي كراريسه التي كان يناقش فيها حتى أواخر حياة الجابري ونصر أبي زيد، المنطق الجديد للتعامل مع نظامنا في القياس والاستنتاج، ومفاهيمنا حول السلطة والجنس والتعايش، وعلاقتنا بالآخر الديني وسياقات تشكلها وعوائق انخراطنا في العصر. فلم يعد هذا السجال الحيوي يملأ كما في السابق صحفنا ومجلاتنا وإذاعاتنا، لأن آلهة الزمان عثرت للمثقف على وظيفة جديدة، وهي الانخراط في اقبح "سوء تفاهم" بين رجال راديكاليين يحملون مشاعل الحريق من هضبات زاغروس والأناضول الى اقصى أقاصي "دار الاسلام". ذلك ان حدود ساحات العمليات تكاد تتلاشى كي يجري إقحامنا في سعير اكثر السجالات اللاهوتية بدائية، والتي كان يسخر منها الجاحظ والبيروني وابن سينا ويصفونها بأنها "حشو وثرثرة أسافل المتكلمين".
لم تعد الدولة مشروعا للتنمية ووعاء لأحلام الشباب وفشلت الهيئات الدبلوماسية والجامعات التي كانت ٩ فقط في زمن العقاد والشبيبي، وصارت للعرب وحدهم اليوم ٤٠٠ جامعة او تزيد.. كل هذا فشل، وها هي الأنظمة تستعين بأكثر الرجال تشدداً، وتضعهم في مقدمة الصفوف لخوض المعركة السُنّية او الشيعيّة وصوغ "مستقبل جديد".
لم تعد حكوماتنا معنية بأي صوت متعقل يبحث عن تساؤلات الغد المرعبة. بل تستعين بأسوأ العقول وتترك لها فرصة ان تدير رؤوس الشعب نحو خلافات الخوارج والفرق القديمة. لم يعد الوقت مناسبا لمفكر ديني يذكرنا بالثراء والغنى في تاريخنا وسحر شرقنا الذي تغزل به الإفرنجة والبريتان والبرتغاليون، بل هو دور الراديكالية الدينية المتشددة لإعادة صياغة العقل المسلم على طريقتها هي، وإبقائه عالقا يفكر بعائدية منبر الجامع الأموي، ومراقد الأولياء والأنبياء، وليكون كل ذلك شرارة حرب يعتاش منها اسوأ أبناء الأمة، ويكون وقودها احلى شبابها.
القيادات السياسية تتفاخر بغزلها مع اسرائيل، وتشتري وتبيع من روسيا والصين بالتومان والدرهم والريال، وتعبر الاطلنطي نحو عواصم السياسة والقرار، ثم تجبر العقل المسلم على نسيان اسئلته لينهمك في التورط بصراع بين راديكاليين أشباه أميين يملأون الشاشات والجرائد واليوتيوب ويحرضون على اكل لحوم البشر ومضغ أدمغتهم. والمثقف في كل الطوائف حائر فيما يمكن ان يفعل ازاء حاملي الهراوات المتحدثين بفصحى ما قبل الزيات واليازجي، والممسكين بمفاتيح الجنة والنار. المشهد يورط هذا الحالم بالتنوير بالانخراط في معركة الطوائف والبحث عن انتماء للقبيلة، قد يؤدي به الى استعادة الشوارب الكثَّة وتعلم ملاعبة الأسنّة مرة اخرى، لا على طريقة الشعراء الصعاليك العظام، بل في نوع من احقر النزاعات.
لم يعد احد يفكر بكيفية محاصرة "الشرذمة الإرهابية" التي دمرت برجي نيويورك، يوم كانت الأمة "معتدلة" تتبرأ من قاتليها الشاذين والمهووسين، بل اصبح جمع المسلمين الأوسع يتأهب اليوم لممارسة الإرهاب والتفاخر به. وأحلام السلاطين بتغيير الخرائط ومد النفوذ تبرر كل الذبح. انها تشغل الأمة عن ظلم الحاكمين وتصدر أزمة الاستبداد الداخلي الى حرب طوائف وراء الحدود، وتمحو نواة الإصلاح في الشرق الاوسط. لم يعد احد مشغولا بأسئلة فولتير عن تعريف جديد للعدالة يخلصنا من تراكم رهيب في الكذب. ولا احد يعبأ بانهماك ابن رشد في وصف علاقة متوازنة بين مهابة السماء وشروط الارض. فالأمة تحمل المشاعل وتضرب الأرجل بالأرض وتهتف باسم القرضاوي او نصر الله.
هراوة القرضاوي أم نصرالله؟
[post-views]
نشر في: 17 يونيو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
د احمد السرحان
بالامس سمعت تقريرا في الراديو عن الشباب المسلم من اصول مهاجرة الذي يغادر السويد لارض المعركة في سوريا للقتال في جانب جبهة النصرة الموالية للقاعدة و كيف ان الشرطة السرية هنا تراقب و ترصد هذا التحرك و تعلم بان خمسة ممن يحملون الجنسية السويدية قتلوا لحد الان