ايرانيون وسوريون وعراقيون يحملون حكايات المستقبل الغامض في حقائبهم ويتجولون فوق هذه الهضاب وداخل المدن الجديدة القديمة. يسردون لك ما يحصل حول الشام ويتناقشون بشأن حيرة واشنطن ب"ما لا تفكر فيه بغداد"، وأزمة البطالة الجماعية في بلاد فارس واختلاط لهجاتها بحثا عن عمل.
في مقهى تركي داخل احد اسواق اربيل الحديثة يبدو كل شيء منتميا الى عالم لم يعرفه العراق بعد ولا نراه الا حين نسافر. وقد عشت في المدينة هذه عام ٢٠٠٧ ولم تكن سوى تجمع بشري يشبه باقي التجمعات التي اوقف زمان صدام حسين عجلة نموها. لكنها اليوم تصنع نواة لشيء مختلف يمكن ان يظهر على انقاض خرابات متنوعة حين تتوفر صفقة اجتماعية مناسبة وتدبير سياسي متعقل.
وأربيل الان ليست مجرد نموذج يمنح الامل لباقي المناطق ويثير حسدا "ايجابيا او سلبيا"، بل يمنحك الجلوس في مقهى المول الحديث، رؤية كل العالم تقريبا. خبراء وموظفون وعمال من القارات السبع، وماركات تجارية من كل حدب وصوب، والاهم ان "المول" يصبح كورشة تدريب على طراز الحياة الجديدة، يتعلم الشباب هنا كيف يستخدمون البطاقات الذكية في دفع ثمن الشاي او البنطلون، ويتمرنون على خفض اصواتهم في الاماكن العامة، والتعامل اللائق مع السيدات.
اما قدري فيعيدني دوما الى "المربع الاول". سياسي عربي معروف ألتقيه فجأة في المقهى ونتبادل بعض "التسريبات" على فنجان القهوة. آخر خبر لديه ان اميركا تصارح اصدقاءها في الاحزاب العراقية، بأنها متحمسة للتعامل مع "الحقائق السياسية الجديدة" سواء في بغداد او البصرة وما ستعنيه هذه التحولات في برلمان ٢٠١٤. كما ان اميركا تعترف بأنها حائرة في طريقة تفكير فريق الحكومة خلال الاسابيع الماضية وأن واشنطن صارت عاجزة عن فهم البوصلة التي تدير ملف الامن والمال والعلاقة مع المستنقع السوري.
واشنطن تسأل: بماذا يفكرون؟ وكان تعليقي على هذا بأن السؤال الاميركي يبدو غير دقيق، اذ مامن تفكير اساسا وفريق الحكومة لم يكن يفكر خلال الاسابيع الماضية، بل كان منهمكا في تضييع حزمة من الفرص.
الرجل يقول لي: "في النهاية فان التحالفات التي بدأت تتبلور منذ سنة لم تكن ترضي الشرق ولا الغرب. لكن الاطراف العراقية بدأت تشعر انها لابد ان تصمم صيغة وتقوم بفرضها على شركائنا في الخارج، لان الامم تنهض بقرار داخلي وحسب، وسيكون على الخارج ان يقتنع حين نصمم تسويات متماسكة".
وهذه الحكاية تفرحني، وأتمنى ان يستمر نضج الطبقة السياسية ولو على مهل حتى يصل هذه النقطة من الشجاعة السياسية، وقد كتبت مقالا قبل ٤ اعوام بصيغة واحد من احلامنا تحت عنوان "صفقة الداخل ناجحة حتى لو فشلت" فالمسافة بين طاولة ٢٠١٠ ولحظة التحولات المثيرة اليوم كانت زاخرة بالاخفاقات ولكن مع الدروس المفيدة، وطريق "التجربة والخطأ" لا مناص منه منذ عصور الاغريق، للوصول الى نتائج افضل، رغم انه مسيرة من الآلام المكتوبة على جدار جامع حي القاهرة الذي فجره انتحاري مجنون ظهيرة الثلاثاء وبعثر أجساد طلاب الجامعة اثناء صلاتهم.
هنا شعرت بتلعثمي مع عامل المقهى التركي، فحدثته بالفارسية مازحا، فما كان منه الا ان استعان بزميله الايراني لتسهيل التفاهم. لهجته فارسية شمالية، ويقول انه من مازندران على بحر قزوين، طحنته ما يسميها بالبطالة الجماعية، التي تعني ان المرء يظل مفلسا رغم وجوده في العمل بسبب تآكل التومان الايراني. انه هنا يبحث عن قدر جديد، ويشير الى ابناء جلدته الذين كانوا ينزوون في ركن آخر ويتحدثون بلهجات ايرانية متنوعة، ونقاشهم المسموع يدور حول ضرورة الحصول على عمل بعد ان انسدت آفاق الزمان بوجه واحد من اكثر شعوب المنطقة ابتكارا ومثابرة.
والحكايات لا تنتهي بعد مغادرة السياسي العراقي والشباب الايرانيين، فالمصادفات تجمعني بسوري وزوجته يمشيان كتائهين حزينين في هذا السوق الحديث. لقد جاؤوا من حلب، وحين تنشغل السيدة بوصف الاهوال التي حولت سوريا الى ميدان رماية لمتشددي كل الطوائف، يطلب زوجها ان تصمت، ويحاول تذكيرها بأنها تتحدث الى عراقي سبق وأن شاهد كل الاهوال وليس بحاجة الى وصف روائح البارود. يختصر الامر لي بلباقة بقايا الفينيقيين الذين حولوا رموز اللغة السومرية الاربعة الاف، الى ٢٦ حرفا يمكن تعلمها بسرعة.. يا سيدي "اللي جرا عليكم جرا علينا".
في اربيل حكايات من كل مكان
[post-views]
نشر في: 19 يونيو, 2013: 10:01 م