ثمة مقطع عظيم في الرواية السيري ذاتية لتوبياس وولف " المدرسة القديمة "، حيث يوجه مدرّس شاب مغرور يدعى رامزي سؤالا الى روبرت فروست ما إذا كان الشكل يهم حقا بعد الآن: أليست الكتابة هي عفوية، وحتى فاقدة للنظام، الطريقة الفضلى لإظهار صدمات تجربة الحياة ا
ثمة مقطع عظيم في الرواية السيري ذاتية لتوبياس وولف " المدرسة القديمة "، حيث يوجه مدرّس شاب مغرور يدعى رامزي سؤالا الى روبرت فروست ما إذا كان الشكل يهم حقا بعد الآن: أليست الكتابة هي عفوية، وحتى فاقدة للنظام، الطريقة الفضلى لإظهار صدمات تجربة الحياة العصرية؟ إجابة فروست كانت مدمِّرة: (( أنا فقدت أقرب أصدقائي في الحرب التي يدعونها ’’ الحرب العظمى ‘‘. وكذلك آخيل يفقد صديقه في الحرب، وهوميروس لم يظلم حزنه بالكتابة عنه في وزن سداسي التفاعيل... حزن مثل هذا لا يمكن أن يُروى الّا في شكل... من دونه، لا تملك شيئا سوى بكاء مَنْ تصطدم قدمه بحجر – صادق بكل تواضع، ربما، لكنه من دون عمق أو مدى. لا صدى. قد يكون لديك ضَيْم لكن ليس حزن. ))
كتاب جوليان بارنز الجديد هو، جزئيا، حول الحزن الذي عانى من وطأته ( واستمر في المعاناة ) بعد موت زوجته، الوكيلة الأدبية بات كافاناه، في عام 2008. حول مسألة الشكل، هو متفق مع فروست، لا مع رامزي. إن استغرقه الأمر عدّة أعوام للتعبير عن حزنه في الكتابة، مع أن جوان ديديون، على سبيل المثال، أنجزت كتابا عن موت زوجها خلال 12 شهرا، فذلك ليس سببه أن صدمة الموت فاجأته وافقدته التعبير بالكلمات ( كتب مئات الألوف منها في يوميات )، بل لأنه احتاج الى إيجاد شكل مناسب. الكتاب الذي كتبه، والذي يمكن تصنيفه كتحدّي، يبدو مفككا في البداية، حتى تتجمع تدريجيا ثيماته المتباينة.
(( أنت جمعت شيئين مختلفين لم يكونا مجتمعين من قبل، )) يبدأ الكتاب، (( والعالم تغيّر. )) تلك هي حقيقة لكنها أيضا حقيقة الفن. عزرا باوند جعل من اتحاد الأشياء المتباينة مبدأً للتصويرية [ ’’ imagism ‘‘، مذهب شعري حديث يدعو الى التخلص من الأوزان والى التعبير عن الفكرات والانفعالات من طريق الصور الواضحة العارية من الغموض والرمزية ]، كما في قصيدته عن محطة مترو باريس: (( ظهور هذه الوجوه في الحشد: / تويجيات على فرع أسود، ندّي. )) وجوه وتويجيات شكّلت مباشرة ثنائيا بصريا متسما بالانسجام. الثيمات التي تتملك بارنز – الحب والسفر بالمنطاد ( والحزن والفوتوغراف ) – تستغرق طويلا قبل أن تأخذ بالانتظام، كاشفة عن أن ما تفعله يؤلف نصف المتعة.
القسم الأول من الكتاب يقدّم لمحة تاريخية عن التحليق بالمنطاد الانكلو- فرنسي في القرن التاسع عشر، مع رائدي التصوير الفوتوغرافي من الجو – غاسبار- فيليكس تورناشو، آكا نادار – في دور البطولة. تماما مثل كل قصص الحب هي احتمالية لقصة حزينة، كما كل صعود مبتهج في منطاد هو احتمالية لكارثة؛ اضافة الى الحرية والمغامرة، هناك هوبريس [ كبرياء مفرط ] وفارْس [ هزل ]. نادار، كان مبتكرا بشكل مضاعف: لم يصعد فقط الى الغيوم، فضاء الرب المستعمر، بل أيضا التقط صورا في الوقت الذي كانت كل تخيلاتنا السابقة مكبلة بالأرض. إنها القدرة (( على النظر الى أنفسنا من بُعْد، على جعل الذاتي يصبح فجأة موضوعيا ))، الأمر الذي جعل بارنز يُعجَب بنادار – الذي كان في الواقع ’’ مفتونا بزوجته ‘‘، عبارة يرجع اليها بارنز فيما بعد وينقذها من إساءة الاستخدام فيما يتعلق به هو نفسه.
اثنان من روّاد التحليق بالمنطاد، كانا الكولونيل الانكليزي فْريد برنابي والممثلة الفرنسية سارا برنار، كلاهما كبيران لافتان للنظر، برغم أن برنار كانت ضئيلة. في القسم الثاني من الكتاب، بي وبي يجتمعان. (( بوسعنا أن نبرهن أنهما التقيا، )) يكتب بارنز – ’’ نبرهن ‘‘ كما في بناء قصة حول ذلك، أكثر مما هو بناء على واقعة. عاجلا، يحلقان نحو الزواج. أو ان برنابي يتخيل ذلك. لايعني ذلك ان برنار كانت نادرا ما تغازل، لكن لأنها كانت مشغولة جدا باللهو الى حد لا تفكّر فيه بالارتباط. مرفوضا، تساءل إن لم يكن العيش وسط الغيوم، مضللا، هو أفضل من العيش بصدق وبأمانة. (( سيدوم الألم عدّة سنوات. ))
توفي برنابي في 1885، في معركة في السودان، برمح مغروز في العنق. أحسّ بارنز أنه عانى من رمح مشابه مغروز في العنق، أو من تحطّم منطاد، عندما توفيت زوجته، بعد 37 يوما فقط من تشخيص الأطباء لورم في مخها. إذ يصوّر القسمان الأوليان الحياة في الجو وعلى الأرض، تصف المقالة اللافحة ذات الخمسين صفحة، التي يُختتم بها الكتاب، الهبوط – لا طبقات الجو العليا، لا المنظور، الظلام والياس فحسب. لا شيء كان مستعدا له: لا موت والديه، ولا كل التفكير حول الموت الذي جرى في كتابه " لاشيء سيثير رعبك "، المنشور قبل أشهر قليلة قبل ذلك. والقليل جدا ساعده على التغلب على الصعاب.
واحدة بعد الأخرى، كانت كلمات التعزية التقليدية المقدمة للمفجوع موقرة وجاحدة: أن المعاناة تجعل منك أقوى؛ أن الأمر يصبح أخف وطأة بعد السنة الأولى، عبر التكرار ( (( لماذا التكرار يجب أن يعني ألما أقل؟ )) )؛ انتما الاثنان ستجتمعان في الحياة القادمة ( الأمر الذي لا يمكن لملحد أن يصدقه ). أنه يعترف انه فكّر بالانتحار ويشرح سبب الإحجام عن ذلك: هو المتذكِّر الرئيسي لزوجته، وإن قتل نفسه فسيقتلها هي أيضا.
حزن لا يلقي ضوءً على حزن آخر، يقول هو، مستشهدا بإي أم فورستر. لكن بعض أوجه الحزن جامعة، أو يمكن أن تصبح كذلك من خلال الأمانة والدقة اللتان تكون بهما مرتبطة معا بمفصل. بإنكاره على نفسه المواساة الصوفية، يزدري بارنز لطف التعابير لـ ’’ انتقلت ‘‘ أو ’’ خسرناها للسرطان ‘‘ ( المقابل اللغوي لتحويل المرء بصره عن الأشياء ). حتى الأحداث التي قد يجدها الآخرون غريبة – عادته بالتحدث الى زوجته، رغم انها ميتة – لها منطقها الخاص الذي لا يُقاوَم: (( واقع ان احد ما ميت قد يعني انه غير حي، لكنه لا يعني أنه غير موجود. ))
بات كافاناه كانت وكيلتي الأدبية لثلاثين عاما؛ أمر عسير عليّ ان أكون موضوعيا. لكن هذا هو ليس كتابا كُتِب للناس الذين يعرفونها. ولا أيضا " قبل أن تتركني " هو قصة عن حياتها وعن الأسابيع الأخيرة. صريح حول حزنه الخاص، يبقى بارنز وقائيا لخصوصيتها؛ برغم ان صورتها على الغلاف الخلفي للكتاب، فإن اسمها لا يظهر في المتن. موجعا من أن عديدا من الذكريات عنها مضت، كما لو أنها تغيب لمرة ثانية، يعدّ هو قائمة بالأشياء التي يتذكّرها – الكتاب الأخير الذي قرأته هي، النبيذ الأخير الذي شربته، الملابس الأخيرة التي اشترتها. لكنه لا يبوح أين كانا.
(( دعوني أخبركم شيئا عنها، )) كتب عن زوجته في نصف الفصل من " تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف "، بينما هو يفشي بالقليل جدا. " مستويات الحياة " هو، على نحو مماثل، كتاب لا يتحدث معنا بصراحة الا الى حد معين. دَويّ الكتاب لا يأتي من كل ما لم يقال، ولا يأتي أيضا من كل ما تمّ قوله؛ يأتي من عمق الحب الذي نستدل عليه من صحراء الحزن.
عن: الغارديان