TOP

جريدة المدى > عام > ما تبقّى من أمريكا..في المتخيل السردي العراقي

ما تبقّى من أمريكا..في المتخيل السردي العراقي

نشر في: 25 يونيو, 2013: 10:01 م

( 1 )قبل البدء بكتابة هذه المقال، سُئلتُ من أحد الأصدقاء عما أعتقد أنه قد بقي من أمريكا، بعد انسحابها، في المتخيل السردي، ولاسيما الروائي؟ ففكرت بداية بما هو خارج السرد والرواية والأدب، أعني بما بقي منها في أناس الحياة والواقع. فلم يطل بي التفكير كثي

( 1 )
قبل البدء بكتابة هذه المقال، سُئلتُ من أحد الأصدقاء عما أعتقد أنه قد بقي من أمريكا، بعد انسحابها، في المتخيل السردي، ولاسيما الروائي؟ ففكرت بداية بما هو خارج السرد والرواية والأدب، أعني بما بقي منها في أناس الحياة والواقع. فلم يطل بي التفكير كثيراً، لأنني تذكرت حادثين عرضيين يتعلقان بالأمريكان والقوات المحتلة. الأول لم يترك أثراً كبيراً فيّ، مع أنه كاد يُودي بحياتي، لأنه وقع في مرحلة الموت التي عاشها جميع العراقيين، أعني سنتي 2006 و2007، وتمثل في ضرب سيارتي برصاصة من رتل أمريكي حين تحركت بها مبتعداً عن الرتل الذي كان أصلاً بعيداً عني. أما الحدث الثاني فلم يكن، وهو الطارئ، ليعني الكثير، لو لم يكن قد وقع لي مع الأمريكان، فهو في كونه قد وقع لي معهم اكتسب عندي دلالة عميقة، وتمثّل في أن رتلاً آخر مرّ يوماً في ساحة عنترة في الأعظمية مما اقتضى قطع الطرق له، ولكنني لم أستطع التوقف إلا وقد تقدمت قليلاً فما كان من أحد الأمريكان الذين يمتطون آلياتهم المدرّعة إلا أن أطلق كلماته الوسخة التي لم أسمعها إلا في الأفلام الأمريكية، مما أثارني فنزلت من السيارة ورحت أرد عليه بعصبية، ولكن الرتل كان، ولحسن الحظ، قد ابتعد به وربما لم يجد من دافع يجعله يعود إلي. المهم أن هذا الحدث الثاني قد ترك في نفسي، وأنا الشرقي العربي المسلم، إثراً عميقاً جعلني أحقد على الأمريكان وأنا أعرف أن أحد عيوبهم الكبيرة في تعاملهم مع الآخرين أنهم لا يفهمون مسائل الكرامة ومس النفوس والأحاسيس ولا يعيرونها عند الآخرين أهمية واهتماماً. من هذا المنطلق وجدت أنه من الطبيعي أن يكون أحد أكثر الأمور التي لا بد للأدب، ولاسيما الرواية، أن يحفظها للأمريكان في تجربتهم معنا هو هذا الذي جرحوا فيه كرامة العراقيين.
ومن هنا، وقبل التعرض لصورة أمريكا يكون من الملائم التوقف عند نموج من هذا الذي لم تتجاوزه الرواية العراقية من تأثير أمريكا في العراقيين، وهو تحديداً من رواية "الحفيدة الأمريكية" لأنعام كجه جي التي تصور واقعة اقتحام قوة أمريكية محتلة ليلاً أحد البيوت بحثاً عن مطلوب بكسر بابه وبعنف أهوج ووحشي، حيث كانت عائلة عراقية تنام. ووسط فوضى ورعب العائلة بكبارها وصغارها هجم الوحوش على رب البيت وأناموه على وجهه على الأرض وربطوه وسط عائلته بشكل مهين وهم يوجهون أسلحتهم ويصرخون بشكل أهوج. وتكون المفاجأة باكتشاف أن الرجل أستاذ في جامعة تكريت، وهو غير الشخص المطلوب. وهنا، كما تنقل لنا بطلة الرواية وراويتها، المترجمة الأمريكية/ العراقية "ارتخى الرقيب الذي يحمل على كتفه ثلاثة خيوط على شكل ثلاث زوايا حادة، وأمرَ الجندي أن يقطع وثاق اليدين... تقدم السرجنت وانحنى أمام الرجل وصافحه قائلاً بنبرة مسرحية:
"- سيدي، أرجو أن تقبل اعتذاري.
"أجاب ربّ البيت الذي كسرنا بابه قبل ربع ساعة:
"- No problem, it’s o.k.
"ورددها عدة مرات بينما كانت عيناه تدمعان وهو لا يصدق أنه قد نجا، وأنا أيضاً لم أُصدق. وتأثرت بالموقف المؤلم الذي كنت شاهدة عليه. خرجنا من الباب المكسور بعد أن أعطينا الرجل ورقة لكي يُراجع دائرة الشؤون الاجتماعية لتعويض بابه. ولم نعد إلى قاعدتنا"- (الرواية، ص105-109).
ولكننا نتساءل فنقول: إذا كان أثر فعل مثل كسر الباب هذا أن يزول ويُنسى بتصليح الباب أو بالتعويض أو بمرور بعض الوقت، فكم من السنين حقيقةً يجب أن تمضي من أجل أن ينمحي هذا الذي تركته أفعال كهذا الذي يقع للعراقي أمام عائلته في رواية كجه جي؟
( 2 )
والآن وأنا أحاول أن استكشف صورة أمريكا التي تركتْها في الأذهان بعد إنهاء احتلالها المباشر للعراق نهاية 2011، فكرت في أن استحضر صورتها في الواقع والمتخيّل العربيين في ما قبل الاحتلال لأجعل من المقارنة الضمنية بين الصورتين أحد منطلقاتي هنا. فقد سبق لي الكتابة في هذا الموضوع دراسات ومقالات عديدة، منها "صورة الشخصية الأمريكية في الرواية العربية" المنشورة سنة 2001. كانت الصورة المهيمنة التي كشفت عنها دراساتي، هي إلى حد كبير الصورة المهيمنة لأمريكا في الأدب والفن العربيين عموماً، بل في ذهن العربي على أرض الواقع، ونعني بها الصورة السلبية النمطية، أمريكا الاستعمارية والعنصرية والمعادية للعرب. هنا كانت أول فكرة خطرت في البال في سياق المقارنة بين تلك صورة التي تركتها أمريكا في أذهان العراقيين بعد انسحابها وكما تمثلت في متخيل زمن الاحتلال، وصورتها النمطية القديمة في متخيّل ما قبل الاحتلال هي أن تكون الصورتان مختلفتين نوعاً، وإن بشكل محدود. ولكن من الملفت للنظر، وقبل التعرض لبعض النماذج الروائية، أن نجد هذه الصورة، أو لنقل الصور، الأخيرة قد جاءت شبه مطابقة بهذا الشكل للصورة النمطية القديمة، ولكن مع تعميقها بهذا الذي تعرضها له في الفقرة الأولى، بالرغم من أن وصول أمريكا إلى المنطقة العربية عبر احتلالها للعراق جاء، لا بشكل عدوان، بل مغلّفاً بالوعود وشعارات التخلص من الدكتاتورية والتحرير والتخلص من أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذي أدى إلى أن يصاحبه تأييد، وإن كان محدوداً، من بعض العراقيين والعرب.
كانت أبرز مشاركات الرواية العراقية في رسم صور أمريكا والأمريكان في ذهن العربي، الذي هو هنا العراقي تحديداً، قبل احتلال العراق، هي تلك التي تمثلت في بعض روايات مهدي عيسى الصقر وميسلون هادي، ولعل الأبرز والأهم كان رواية "الشاهدة والزنجي"- 1988- للصقر، وإلى حد ما "الحدود البرية"- 2004- لهادي، وإن ظهرت الثانية بعد الاحتلال مباشرة. أما أول مؤشرات أو ملامح الحضور الأمريكي وصورة أمريكا والأمريكان في الرواية العراقية بعد احتلال 2003، فمن الطريف أنه كان في عناوين الروايات التي عكست، صراحةً أحياناً وضمناً غالباً، الموقف من أمريكا، وهو ما يعني عندنا قوة تأثير الوجود الأمريكي في العراق هذه المرة، في ظل أن العراق لم يشهد احتلالاً مباشرة من أية قوة أجنبية في العصر الحديث إلا من بريطانيا ودام بضع سنوات فقط. ومن هذه العناوين: "الحفيدة الأمريكية"- 2008- لأنعام كجه جي، و"حليب المارينز"- 2008- لعواد علي، و"الغبار الأمريكي"- 2009- لزهير الهيتي، و"الأمريكان في بيتي"- 2011- لنزار عبد الستار، و"مجانين بوكا"- 2012- لشاكر نوري، و"بغداد.. مالبورو.. رواية من أجل برادلي مانينغ"- 2012- لنجم والي،. وقد جاءت إلى جانب روايات أخرى تمثلت أمريكا والأمريكان، بشكل أو بآخر، ولكن عناوينها لم تفصح عن شيء من ذلك، منها أغلب روايات ميسلون هادي الصادرة بعد الاحتلال مثل "حلم وردي فاتح اللون"- 2009، وروايات "كوبنهاكن مثلث الموت"- 2004- لحسن السكاف، و"أموات بغداد"- 2008- لجمال حسين علي، و"قيامة بغداد"- 2008- لعالية طالب، و"أقتفي أثري"- 2009- لحميد العقابي، و"حرب العاجز: سيرة عائد، سيرة بلد"- 2009- لزهير الجزائري، و"سيدات زحل"- 2010- للطفية الدليمي، وغيرها. وهكذا لم يقتصر الحضور الأمريكي، بالطبع، على ما تقدمه العناوين المصرحة بالموقف أو الموحية به، ولا على حضور هامشي أو ضمني، بل أن جل هذه الروايات وغيرها قامت على موضوع الآخر هذا، وقدمت تنوعاً واسعاً بعض الشيء لصورة أمريكا والأمريكان ووفقاً لمحتوى تلك الروايات وموضوعاتها ورؤى مؤلفيها، وبالطبع تجاربهم العملية. ولكن مجموع هذه الصور، على تنوّعها، لا تكاد تخرج عن السلبية شبه المطلقة إلا في النادر، وهي عموماً تقدم رؤية مهيمنة للرواية العراقية والروائي العراقي، وربما في النتيجة الإنسان العراقي، لأمريكا والأمريكان، يحتاج الكشف عنها تفصيلاً بالتأكيد إلى دراسات لا مقالة مثل هذه، ولكن لا بأس في مرور سريع بها. فكيف تمثلت الرواية العراقية خلال سنوات الاحتلال العشر أمريكا والأمريكان؟، وما هي الصورة أو الفكرة أو الرؤيا التي تركتها أمريكا، بعد تخلّيها عن الاحتلال المباشر ومغادرة جل جيوشها العراق، في ذهن ووعي العراقي؟
( 3 )
من الطريف أن نشير هنا إلى ظاهرة أخفق بعض النقاد والروائيين والكتاب، لمحدودية اطلاعهم، في رصدها، حين قالوا بعدم معالجة الرواية العراقية خلال الفترة التي نعنيها، بينما الحقيقة هي العكس تماماً، إذ ندرت الروايات العراقية التي لم تتمثل هذا الواقع وتعالجه خلال هذه الفترة، وضمن هذا الواقع أمريكا والوجود الأمريكي، قبل الحرب على العراق وبعدها. استحضار جل هذه الروايات يُمكّننا بسهولة من ملاحظة أن أمريكا في رؤية الرواية العراقية والروائي العراقي، ولعلنا نقول بالنتيجة الإنسان العراقي، هي وراء الخراب الذي وقع عليه وعلى بلده وصار يرسم يومه الذي يعيشه. وبعض هذه الروايات عبرت عن هذا بألم وسخرية تراجيدية مبكية، وأحياناً بما يشبه المرثية للواقع العراقي، أو أهجية ضمنية للقادم الأمريكي، لتكون النتيجة موقفاً من أمريكا في نهاية رواية "الحدود البرية"، مثلاً، يمكن أن نعبر عنه بالموقف العراقي الحاسم تماماً والمعبر بشكل فني عما نزعم أنه يختلج في نفوس الكثير من العراقيين، بدليل أنه يتمثل في جل الروايات الأخرى التي تمثلت أمريكا. فحين تعرض إحدى الشخصيات على بطل الرواية هاتفها ليكلم به زوجته في أمريكا يرد عليها البطل: "لم تعد لي زوجة هناك". إن العراقي ممثلاً هنا بالبطل يطلق الرصاصة على مشروع الزواج أو اللقاء العراقي- وربما العربي والشرقي والإسلامي- الأمريكي الممكن، إن لم تكن أمريكا هي التي أطلقت هذا أصلاً. ولعل ما يؤكد القطيعة، أو لنقل الرفض لأمريكا بشكل أكثر حسماً هو التخلي حتى عن العراقي حين يرتبط بأمريكا، كما تفعل (ختام) مع خطيبها وابن عمها في رواية الكاتبة نفسها الأخرى "حلم وردي فاتح اللون": "طبيب هاجر إلى أمريكا.. إنه ابن عمها.. وكان المفروض أن تتزوجه، ولكن لم يحدث النصيب".
وإذا كانت أعمال ميسلون هادي قد عبرت، بشكل غير مباشر غالباً، عما صارت تعينه أمريكا للعراقي، وإذا كان زهير الهيتي، مثلاً، قد عبر في رواية "الغبار الأمريكي" ضمناً عن اغتصاب بغداد، وتبعاً لذلك بالطبع العراق، ولكن على أيدي المحتلين أمريكان وغير أمريكان، فإن إحدى شخصيات رواية "حليب المارينز" لعواد علي تعبر بصراحة وبحصر ربط للأمر بأمريكا تحديداً، حين تقول: "إن المارينز لم يدخلوا بغداد حاملين مشعل الحرية، ولم تذهب أميركا إلى العراق كي تُرضع شعبه من ثديها المدرار بالحليب المجاني، بل لتهبه صندوق باندورا المشؤوم". وعندنا أن (صندوق باندورا) هذا هو من وجهة نظر جل الروايات التي عالجت واقع ما تحت الاحتلال هو الذي تركته أمريكا للعراق بعد انسحابها. وقد عبرت ميسلون هادي عن هذا بألم وسخرية تراجيدية مبكية عندما جلست بعض شخصيات "الحدود البرية"، مرة أخرى، في إحدى ليالي العدوان الأمريكي وقد صارت أيام العراق كالحة: "تعطلت المدارس وخلت المحلة من الناس ولم يعد يزورنا أحد أو نزور أحداً.. وعندما كان يحل الليل كنّا نلتم على ضوء الشموع للعشاء فيقول أطفالي إن الوقت لم يحن بعد للقصف لأن بوش يتعشى أيضاً، فأُخبرهم عن فرق التوقيت بيننا وبين أمريكا، وأقول لهم بل إنه قد تغدى و تنزه الآن وليس لديه ما يفعله سوى أن يمسك بالأتاري ويقصف". وبظننا أن هذا تحديداً هو ما تبقى من أمريكا في أذهان العراقيين، مع (صندوق باندورا)، بعد تخلّيها عن الاحتلال المباشر للعراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. عواد علي

    الصديق الناقد د.نجم أحييك على هذا المقال الرائع، وأود أن أذكرك بأن لي رواية ثانيةتدور أحداثها حول الاحتلال الأمريكي للعراق هي نخلة الواشنطونيا . وتقبل خالص مودتي واعتزازي عواد علي

  2. د. نجم عبدالله كاظم

    الأديب والناقد الجميل عود علي شكراً على التعليق.. وكم أتمنى أن أرى روايتك الأخرى، عسى أن تُتاح لنا فرصة لقاء قريب. عدا ذلك سأكون في عمّان بداية شباط إن شاء الله.. تحياتي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

في مديح الكُتب المملة

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

مقالات ذات صلة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع
عام

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

علي بدركانت مارلين مونرو، رمزاَ أبدياً لجمال غريب وأنوثة لا تقهر، لكن حياتها الشخصية قصة مختلفة تمامًا. في العام 1956، قررت مارلين أن تبتعد عن عالم هوليوود قليلاً، وتتزوج من آرثر ميلر، الكاتب المسرحي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram