خطاب عراقي جديد هذا الذي سمعناه من علي التميمي محافظ (او خادم) بغداد الجديد، خطاب تحدث فيه عن تمدين بغداد لا أسلمتها، وأن بغداد لن تكون قندهار، والسعي لتمدينها لا عسكرتها. ما أجمله من كلام يعيد للبغادّة او البغادلة، من الذين ولدوا فيها أو الذين ولد آباؤهم وأجدادهم فيها، شعورهم بهذا الانتماء، لعلمنا بأن كلمة مثل البغددة والتبغدد، كلمة خفيفة على اللسان كبيرة في الإدراك العميق لمفهوم التحضر والمدنية.
ترى هل سيمدنا الرجل التميمي بنسغ جديد للعيش في زمن عراقي جديد حقاً؟ هل نشهد عصرا لا ينظر فيه للفنان والمثقف والأفندي بشكل عام على أنه الملحد والكافر والعلماني؟ وهل قطعنا حبل الوصل مع التشدد والعنت والكراهية لكل ما هو جميل ومدني؟
ولكي لا يذهب بنا اليأس بعيدا من قولنا بأن المحافظ الجديد إنما جاء من حاضنة دينية لها تأريخها المعروف، وكانت بغداد قد شهدت ما شهدت في بعض أيامها من تماس بين الكتل الدينية تلك، نقول بأن التيارات الإسلامية مجتمعة عام 2003 ليست هي في العام 2013، وما كان معتما بالأمس لم يعد كذلك اليوم، بل يصح قولنا بأن دين العراقيين كلهم لم يكن حلقة نار وتشدد منذ أن اعتنقوا الإسلام، إنما ظل الدين والوحدانية ممارسةَ الفطرة، مجلبةَ للطمأنينة، حلقةً للوصل بين العابد والمعبود، فهو (العراقي) يصلي الأوقات ويصوم رمضان ويحج البيت إن استطاع لكنه لا يجافي مقعده في السينما والمقهى والمتنزه وإذا غالبته نفسه على كأس خمرة يفعل، وإن طابت له إحداهن تعلق بها...
ظلت النفس العراقية كريمة معطاءً باذخة ميالة للطرب والسهر والرفقة المرحة حتى في أصعب اللحظات، ولم تتمكن سنوات الحصار من لَيّ عنقها، كذلك لم تتمكن الحرب بضراوتها المعروفة من مداهمة مناطق الألق فيها حتى السنوات الأخيرة، ومن يفتش عن حقيقة ما أقدم عليه البعض من المتشددين في سنتي 2006-2007 يجد ان اليد العراقية لم تقدم على فعل من أفعال القتل الشنيعة قبل تدريبها على أيدي القتلة والمتوحشين الذين دخلوا العراق من حدوده الغربية التي تناهبها العرب الأفغان وسواهم.
يبكي العراقيون كثيرا، ولا نجد بين العرب من فاقهم دمعاً، ومن يعتقد بأنهم يبكون في المآتم والحسينيات وعلى فقدهم لأحد من ذويهم فهو واهمٌ كبير لأنهم يبكون أكثر حين يطربون، ويبكي العراقي حين يسمع أغنية وحين يشاهد فيلما حزينا ، وقد شهدنا أعينهم حمراً تفيض بالدمع ساعة خروجهم من صالات السينما. والعراقيون أكثر شعوب الأرض ضحكا وميلا إلى النكتة والملحة والطرفة ولعل أول مصنّف ساخر مضحك في العربية كان كتاب البخلاء للجاحظ .وأهل بغداد أكثر أهل العراق ميلاً وحباً وتعلقاً بالحياة.
كانت بغداد الكتاب الأكبر في الدرس الحضاري العربي، وحين أظلمت المدن المحيطة بها كان العالم مأخوذا بضوئها، وحتى في سنيّات جدبها ونضوبها لم يجرؤ أحد على تغليب الحديث عن خرابها على الحديث عن جمالها وسحرها وعصرها الذهبي، وما نريده من محافظها الجديد هو عدم إغفال مجدها الذي تخلق عبر أسماء خلفائها ومدارسها ومساجدها وشوارعها، وأي حديث عن بغداد لا يرد فيه ذكر أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم وأبي نؤاس وشهرزاد وشهريار وعصرها الذهبي سيكون حديثا ناقصا.
نريد من "خادم بغداد" أن لا يتوقف عند نقطة خلاف فقهية لأنه ليس بفقيه، ولا ينبغي له ذلك، وليجعل كل حديث في الخلاف والنبذ محط عنايته، ولا يدع كلمة الكراهية والبغضاء ضد أي مكون تفلت من أي مكبّر للصوت ومن أي مسجد او حسينية، لم لا وهو المسؤول المدني الكبير صاحب السلطة التنفيذية المدعومة بالقوانين، الذي بيده المال العام، القادر على إنفاقه بما يجدد حياتهم ويسعدهم في باقي أيامهم ويأخذ بيدهم تجاه كل ما هو مديني متحضر.
وبعد فهو الأمل الذي يعقده البغداديون عليه في إشاعة السلام والحب والود ونبذ الطائفية. ذلك لأننا في البصرة أيضا، نتطلع لما يفعله ونطالب بما يشابهه.
محافظ بغداد.. خطاب بغدادي باهر
[post-views]
نشر في: 25 يونيو, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...