في خطوة لا سياق لها في عالم ساسة الصدفة عندنا، قدمت رئيسة وزراء أستراليا جوليا غيلارد استقالتها إلى البرلمان، نزولاً عند إرادة نواب حزبها، لأنهم سحبوا الثقة عنها..!
وهذا السلوك السياسي، من وجهة نظر مكتب الإرشاد الإخواني في مصر، وشيخهم المتعبد في محراب شيخ قطر القديم والجديد، وكذلك من وجهة نظر دولة القانون وحزب الدعوة عندنا، نوع من الهرطقة السياسية، وربما خروج عن مفاهيمهم الدينية حول ولي الأمر أو الحاكم بأمره. ولهذا نجد محمد مرسي الإخواني، عملاً بتوجيه مكتب إرشاد حزبه، يسوق مصر العظيمة هذه الأيام إلى ما يشبه الانتحار السياسي. كما يواصل زعيم دولة القانون وحزب الدعوة جرَّ العراق إلى مشارف التمزق والخراب، دون ان يبالي بما يقترفه كل يوم هو واتباعه من كبائر وارتكابات، وما يواجه من رفض ونقد ومطالبة بالرحيل.
وما دام الشارع العراقي لا يمور بالكتل الشعبية المعارضة لنهج المالكي وسياساته، وما دامت الكتل الرافضة، المشاركة أو المغيبة عن السلطة، غير قادرة على التحشد والاعتصام، ومواصلة الاحتجاج بكل الوسائل السلمية التي تمارسها المعارضة الشعبية المصرية، فأن أرباب دولة القانون، يظلون في حالة من الارتياح، يشعرون بنعمة الأمان على ما توفره لهم السلطة من نهب وفساد وترويع وتحدٍ لمشاعر العراقيين واستهتار بمصالحهم.
في مصر، يرفض فرعونها "الإخواني" اعتراض أكثر من خمسة عشر مليون على استمراره في الحكم ويطالبه وحزبه بالرحيل، عبر انتخابات رئاسية مبكرة، بعد فشله على كل صعيد خلال سنة واحدة من حكمه، وهو فشل لم يشذ عنه سوى نجاح واحدٍ حققه بامتياز، وهو إفراغ خزينة مصر من احتياطياتها النقدية ووضعها على شفى إفلاس واسقاطٍ للدولة.
وفي العراق يستمر حاكمنا، بإعادة إنتاج الفشل في كل مرفق من المرافق الحيوية لنهوض المجتمع، ولديمومة الحياة الكريمة لأفراده، منتهكاً في كل خطوة اقدم ويقدم عليها، الدستور والتعهدات وقيم الشراكة الوطنية، متعهداً علناً وبلا أي خشيةٍ أو رادع، بحماية المفسدين وإدامة وتكريس مظاهر الفساد المالي والإداري، غير آبهٍ بالقانون أو القضاء أو البرلمان، بعد أن حد بوسائله من قدرتها على الفعل والتصدي. وهو إذ يفعل ذلك كله، لا يتوانى عن تبرير تصاعد الإرهاب والتصفيات الوحشية، بل لا يشعر بالحرج من استخدام أداة مزورة لكشف المتفجرات بعد أن اعترفت الجهات الأمنية بان استخدامها باطل.
رئيسة وزراء أستراليا، وهي ليست من فريق الإسلام السياسي، (أو المسيحية السياسية)، قدمت استقالتها، لا استجابة لضغط الاحتجاجات والمظاهرات المطالبة بتنحيها، نتيجة فشلها في الوفاء بوعودها التي قطعتها على نفسها في برنامجها الحكومي، كما أنها لم تفعل ذلك نزولاً عند رغبة البرلمان، أو بتصويتٍ من أكثريته، وإنما استقالت وهي مبتسمة تبدو عليها علامات الرضى والانسجام مع نفسها وقيمها الديمقراطية، لان الكتلة البرلمانية لحزبها سحبت الثقة عنها، خارج البرلمان..!
وهي بهذا السلوك، وهو على كل حال نمطٌ متعارف عليه في الديمقراطيات المتجذرة، رفعت من شأن حزبها، دون ان تبالي بموقعها ومستقبلها السياسي. كما أنها لم تحاول ولا بمجرد التلميح، اللجوء إلى الاستقواء بالكتل الأخرى في البرلمان، ولم تستخدم نفوذها وسلطة الدولة في المراوغة والمراوحة طمعاً في كسب الوقت كما فعل دائماً مختار المخاتير، في زمننا المترهل هذا. لكنها بفعلها المسؤول، أظهرت مدى تماسك نواب حزبها، وانشدادهم لمصالح ناخبيهم ومصداقية حزبهم، وقد اقتنع من انتخبوها لتتولى شؤون البلاد أنها لم تعد على السوية التي ترضي نزعات الجمهور وتطلعاته، وان لم يبرز ذلك في المشهد السياسي بعد!
وفي مقارنة "غير عادلة" بين السلوك الديمقراطي المتحضر للمسؤولة الأسترالية والرقابة الصارمة لكتلتها البرلمانية، نقف على خطوط تماس عالمين، وحضارتين، ونمطين متناقضين رغم انهما يحملان " شكلاً " توصيفاً ديمقراطياً. فالأول بعوالمه وحضارته، يحترم مقدسات وقيم كل أديان شعبه ونزعات مواطنيه الفكرية والقومية والسياسية، ويدافع عن حركاتها بقوة القانون، بينما يقدم الثاني مع ادعاءاته التمثل بالقيم الدينية والمجتمعية، نماذج لانتهاك عقائد وقيم واختلافات الآخرين، ويحتكم في التعامل معها الى السيف وكواتم الصوت والقتل على الهوية، ويبيح السرقة والنهب والتعدي على الكرامات، وينتهك كل الأعراف الاجتماعية والقيم الدينية ومبادئ حقوق الإنسان والدستور.
ورجوعاً إلى ما تشهده مصر اليوم، وهي تطالب مرسي بالرحيل المبكر، وما يواصله رئيس مجلس وزراء العراق من نهج وسياسات ومغامرات على الضد من مصالح العراق الوطنية العليا وتشوفات العراقيين وتطلعاتهم، وهو يواجه الرفض من جميع القوى السياسية في البلاد لنهجه وسلوكه وتدابيره، نلمس كيف تحول فرعون الإخوان بعد انتخابه إلى أداة طيعة بإمرة مكتب إرشاد الإخوان المسلمين، ضارباً عرض الحائط إرادة الشعب المصري. وفي المقابل، كيف تغّول سلطاننا على كتلته وقادة حزبه، بعد ان تمكن من اغتصاب كل مؤسسات الدولة وأجهزتها، وقزّم سلطاتها "المستقلة" وأفرغها من إرادة الفعل، فلم يعد لاحد ان يرفع صوتاً أو يقّوم نهجاً، ناهيك عن المطالبة بالرحيل، حفاظاً على مصداقية الكتلة أو الحزب، قبل الالتفات إلى مصالح العراق والعراقيين.
هل سنشهد اليوم أو في تالي الأيام، بداية سقوطٍ لمستبدٍ حاول تجريب إمرار سلطة خلافةٍ أموية او عباسية أو عثمانية متلفعة بلبوس الإسلام السياسي المغرق في التفسخ والطغيان؟
آمين...
ديمقراطية "كافرة" وأخرى بلبوس "التديّن"..!
[post-views]
نشر في: 29 يونيو, 2013: 10:01 م