لم يكن المسرح في الوطن العربي بمعزل عن تلك التحولات التي وقعت في العالم الغربي ، ذلك ان المجتمعات العربية قد أصابها الكثير من تأثيرات الحروب العالمية ، فضلا عن التقسيمات السياسية والهيمنة الأجنبية التي كانت تحاصرها من جميع الاتجاهات، إلا أن المسرح ال
لم يكن المسرح في الوطن العربي بمعزل عن تلك التحولات التي وقعت في العالم الغربي ، ذلك ان المجتمعات العربية قد أصابها الكثير من تأثيرات الحروب العالمية ، فضلا عن التقسيمات السياسية والهيمنة الأجنبية التي كانت تحاصرها من جميع الاتجاهات، إلا أن المسرح العربي كان يسعى من اجل البحث عن خصوصية فكرية وجمالية على مستوى المضمون والشكل، لذلك برزت تجارب مسرحية تدعو إلى الاطاحة بالشكل الغربي للعرض المسرحي والعمل على تقديم عروض مسرحية تمتلك خصوصيتها مع المجتمع العربي، الامر الذي استطاع من خلاله عدد من المخرجين العرب تقديم تجاربهم المسرحية التي تستند إلى التراث العربي والعمل على تحويلها إلى أشكال مسرحية تقف في مقدمتها تجارب (خيال الظل) الذي لم يزل حاضراً في مختلف العروض المسرحية المعاصرة ، حيث قدم العديد من المخرجين الشباب في مهرجان بغداد المسرحي الأخير عددا من العروض التي تستفيد من هذا الشكل المسرحي التراثي .. نذكر منها: مسرحية (صور من بلادي) إخراج (د. أحمد محمد عبد الامير) والعرض التونسي (طواسين ) إخراج (حافظ خليفة)، فضلا عن ذلك فإن اهتمام عدد من المسرحيين العرب في إعادة إنتاج التراث العربي بما يحمل من مضامين فكرية تشكل ضرورة معرفية تمنح المتلقي القدرة على التفاعل مع التأريخ العربي وعدم الانجرار وراء الشكل الغربي واعتماده في تكوين العرض المسرحي ، وقد كان لتجارب المخرج المغربي (الطيب الصديقي) في مسرحة التراث العربي دور فاعل في تجديد العرض المسرحي العربي، فضلا عن تجارب المخرج العراقي الراحل (قاسم محمد) الذي عمل هو الاخر على إعادة إنتاج التراث العربي والعمل على المزاوجة بين مضامينه التأريخية والشكل المسرحي المعاصر من اجل تحقيق متعة الفرجة البصرية للمتلقي فضلا عن تحقيق الثراء الفكري بما يمتلك التأريخ العربي من خصوصية معرفية.
لم تتشكل بعد خصوصية المسرح العربي الذي أُنتجَ بعد ثورات الربيع العربي ، ذلك أن فعل الثورة لم يزل مستمراً في العديد من بلدان الربيع العربي بالرغم من الإطاحة بالسلطات في تلك الدول، إلا أن الحراك السياسي جعل من منطوق الربيع العربي الفكري والثقافي ولاسيما المسرحي غير مستقر، ذلك أن السلطات الجديدة التي هيمنت على شكل الدولة؛ لم تزل بعد تتخبط في اتخاذ قراراتها السياسية، ذلك أنها لم تكن تتخيل في يوم من الايام ان تكون في سدة الحكم، بعد أن كانت تعاني من التهميش، والإقصاء، وبالرغم من أن ذلك ارتبط إلى حد ما بالمتغيرات التي حصلت في العالم ، لاسيما فيما يتعلق بمفاهيم فلسفية ونقدية أخذت طروحاتها تنتشر في الاشتغال النقدي والتي يعد مشروع (مابعد الحداثة) من أبرزها وأكثرها حضوراً وبخاصة ما يتعلق منها بطروحاته التي تدعو إلى تهشيم المركز، والاستعاضة عنه بإحلال الهامش بديلاً عن المتن المركزي ، إلا ان ما يحصل اليوم في المجتمعات العربية التي تمر بمرحلة صعبة من التحولات التي تتمركز على المستوى السياسي ابتداء، وصولا إلى بنية العرض المسرحي الذي بات المشتغلون فيه يعملون على توظيف الطروحات النقدية والفلسفية في العروض المسرحية من دون العودة إلى الأسباب السياسية والاجتماعية التي دعت إلى تكوين تلك المناهج في المجتمعات التي نشأت فيها، الأمر الذي جعل من تلك المفاهيم عرضة للزوال، ذلك أنها لم تمتلك القدرة على تثبيت جذورها في الواقع العربي بما فيه من عادات وتقاليد وبنية اجتماعية لها خصوصيتها ، من جهة اخرى نجد أن السلطة الجديدة في دول الربيع العربي لديها من الاهتمامات مايمنعها عن الانشغال بالمسرح والفنون والمعرفة عموماً بل هي على العكس من ذلك تتجه إلى ترسيخ السلطة التي هيمنت على ثورات الربيع العربي والتي كانت دينية في الاغلب الأعم، بالرغم من أنها لم تكن حاضرة مع الشباب العربي في ساحات الثورة التي أطاحت بالنظم المتسلطة ، إلا ان تيارات الإسلام السياسي التي كانت أكثر تنظيماً من غيرها على المستوى الحزبي والجماهيري، حيث استطاعت الهيمنة على الثورات والعمل على إقصاء الشباب العربي، الأمر الذي أنتج صراعاً عربياً من نوع مختلف مفاده ان تيارات الإسلام السياسي تمتلك السلطة الدينية التي تمنحها القدرة على استقطاب الجماهير بدعوى انهم ممثلو (الشريعة)، مستفيدين من فعل المزاوجة بين الطروحات الاسلاموية من جهة وطروحات الحرية والديمقراطية من جهة اخرى ، الأمر الذي جعل من واقع المسرح العربي متشظياً ، إلا ان ذلك لم يمنع من وجود عدد من التجارب المسرحية التي تشكل بمجملها ملامح المسرح في الربيع العربي بالرغم من عدم استقرارها كما أشرنا لذلك سابقاً ، إلا انها باتت تشكل ظاهرة اجتاحت العروض المسرحية وهي كما يلي :
1- النص الدرامي: الذي تحولت المضامين الفكرية فيه من مناقشة القضايا التي تهم المجتمعات الإنسانية بشكل عام إلى معالجة القضايا اليومية التي تجتاح الشارع العربي ، بما فيه من متغيرات تمتلك خصوصيتها في كل مجتمع .
2- إقصاء فكرة النص العربي الذي كان يتكئ لعقود طويلة على مفهوم القومية العربية التي كانت تنادي بالقضايا العربية الكبرى التي تقف في مقدمتها قضية فلسطين ، ذلك ان جميع البلاد العربية باتت تحمل همومها ومشاكلها الخاصة، وبذلك لم تعد نصوص (سعد الله ونوس ، ممدوح عدوان، محمود دياب ، الفريد فرج ..فلاح شاكر ، خزعل الماجدي ، عادل كاظم ، وغيرهم ) حاضرة في تجارب المسرحيين الشباب في هذه المرحلة .
3- الاعتماد على اللغة المحلية في تشكيل المضامين النصية التي تقتصر على حكاية متشظية المعنى لشخصيات تعاني من الظلم على مستويات عدة منها مايعود إلى قسوة السلطات السابقة ومنها ماهو مرتبط بالهموم التي بدأت تكشف عن شكلها في ثورات الربيع العربي .
4- العرض المسرحي: تنوعت التجارب المسرحية على مستوى العرض إلا أنها اتفقت على تهشيم البنية التقليدية للشكل المسرحي ، والعمل على إنتاج أشكال مسرحية مختلفة تتسم بالقسوة على مستوى الشكل البصري، لكي تنسجم مع الواقع الذي بدأ يجتاح المجتمعات العربية في ظل تداعيات السلطة الجديدة التي تمتلك خاصية الهيمنة (الشرعية) تحت مظلة الإسلام السياسي.
5- كشف مهرجان بغداد لشباب المسرح العربي عن ملامح المضمون والشكل في عروض المسرح الذي أنتجته ثورات الربيع العربي ، ونؤشر هنا إلى أن بعض المخرجين اختاروا العودة إلى التراث العربي الإسلامي غير أن تلك الاحالة لم ترتبط بما كانت عليه مع تجارب سابقة الذكر بل على العكس من ذلك، نجد أن العروض المسرحية التي استنبط مرجعياتها من التراث العربي قد اختارت تلك المضامين من اجل الاطاحة بالمفهوم الذي تعمل السلطة الدينية في دول الربيع العربي على توظيفه من اجل الهيمنة على المجتمع ،وقد جاءت عروض (تونس، وسوريا) للكشف عن تلك المعالجات الاخراجية للتراث العربي الاسلامي، ذلك أن مسرحية (طواسين ) للمخرج التونسي(حافظ خليفة) أفادت من المضمون الصوفي الذي ارتبط في ذاكرة المجتمع الاسلامي بشخصيات (الحلاج ،أبن عربي ،السهروردي، حمدان قرمط) والذي عمل المخرج على الاطاحة بهم في رؤية إخراجية توجهت نحو سحبهم نحو الواقع المعاصر، كذلك هو الحال مع تجربة المخرج السوري (غزوان قهوجي) الذي اعتمد على الشكل الذي كانت تقدمه (حلقات الصوفية)، والعمل على توظيفه في عرض مسرحي جاء تحت عنوان (مولانا)؛ فضلا عن ذلك فإن العروض العراقية في المهرجان ذاته تناولت قسوة الحياة اليومية على الشباب الذين لم تتشكل رؤاهم الجمالية والفكرية بعد ، وكل هذا يعود إلى سنوات طويلة من الحروب والتهميش والعزلة .. إلا أنهم مستمرون في تقديم عروض مسرحية تحاكي همومهم الانسانية التي تهيمن هي الاخرى على رؤاهم المسرحية.