لا أعرف محمد عباس ولم التقه يوماً، ولا يجمعني به حبّ كرة القدم.
ومحمد عباس لا لون سياسياً له، سوى ما أوحى به حبه لوطنه، وهو يتخلى عن نعيم العيش في بلد أوربي ليعود إلى نكد وطنه المبتلى باللصوص والقتلة وأدعياء الورع الزائف، ومغتصبي السلطة باسم الدين والطائفة.
وأزيد على ذلك، ما قد يتبين يوماً، انه كان منتمياً في السابق أو ما زال، إلى رهطٍ من الإسلام السياسي. أو قد يجوز أن شقيقاً له أو شقيقةً أو ابن عمٍ أو صديقاً أثيراً، أو أياً كان من معارفه، تجمعه صلة بحزب الدعوة الحاكم، وزيّنَ له العودة محمولاً على الأمل إلى عراقٍ "يحترم حرمة الإنسان وكرامته".
وهل يهمّ كل ذلك ليكون لموته وقعٌ يخترق الصمت المشبوه من سدنة السلطة وأربابها، ويتحول إلى حاملٍ لغضبٍ شعبي يوقظ ضمائر نوابٍ لم يجدوا في موته مناسبة للبحث عن القاتل ورصد مثالبه المشينة الأخرى، كما في جريمة الحويجة وقبلهما من جرائم جرى التستر عليها باحتراف من أتقن ارتكاب الجرائم وأوغل فيها بعد أن تجرد بلا مبالاة من أي حس إنساني، ومن أي شعور بالمسؤولية إزاء مصائر مواطنيه؟
في كل مرة يرتكب فيها طاغية أو نظام مستبد عبر تاريخنا المظلم، جريمة قتلٍ أو تصفيةٍ، يكون الضحية فيها شهيداً يحمل هوية وطنٍ مغلوبٍ على أمره، يا محمد عباس، يعم الحزن السري في بيوت العراقيين دون ان يبالى أي بيت حزين بهويته، لان قاتله موصوفٌ مكشوفٌ عنه المستور، لا يحفل هو نفسه بإخفاء مسؤوليته، لأنه يريدها عبرةً وإشهاراً لنواياه في الحجر على ضمائر المريدين وإحكام الصمت على العاجزين.
وماذا عن قتلك يا شهيد الشباب..؟ ماذا عن هذا الصمت الذي يغلق محاجر نوابنا وقادة أحزابنا وكتلنا البرلمانية، المعارضين والموالين، وهم لا يرون في الغدر بك مناسبة للغضب والمطالبة دون تهاون بكشف القاتل الحقيقي الذي يقف وراء إزهاق روحك المعذبة، ووراء كل جريمة أسيلت فيها دماء أبناء شعبنا، دون أن يُرفع اللثام عن وجه أدواته الذين يتمادون كل يومٍ، وفي كل موقعة جمل، وعند كل طيرانٍ خفيضٍ فوق ساحات الاحتجاج لإثارة الغبار أو نشر الرعب، ومع كل تمثيل بالمعذَبين في أقبية السجون والمعتقلات؟
لم اشعر بالهوان إزاء ما أحيط بك من صمت وإهمال مجحف، ولا بالعجز عما يمكن أن اعبر عنه من مشاعر، وأنت تبدو متوحداً مع محنتك منطوياً على حزنك، لا على ما أصابك من غدرٍ دنئ بل من شدة هولك على ما يمكن أن تخبئه الأيام لأقرانك من شبيبة العراق الجديد!
في كل مرة واجهت فيها موت عزيز، وما أكثر ما عشت من محن تغييب رفاق درب ونضال، كنت انشج بكاءً صامتاً ملتاعاً، لكن اليقين من يومٍ آتٍ يتحول فيه دم الشهيد وجراح الضحايا إلى "فم"، يبدد عني وحشة الموت الساجي على مسافة لا تسد مشهدها جدران سجون ومعتقلات الطغاة والمستبدين، فماذا عن موتك أيها المسجى أمام أبصارنا، ومشهد القاتل الذي استهوته الغواية، يسخر من غيبوبتنا وأوهامنا من يقظة ضمائر تحجرت مساماتها، وأوهن إرادتها التواطؤ على الصمت..
أيها الشهيد المتوحد،
أيها المفجوع بالخديعة المبتكرة،
بالوهم من تقوى،
أو من ورعٍ زائفٍ تسلل إلى حياتنا، فحوّلها الى وليمةٍ للغدر والخطيئة..
أنني أبكيك وأنا خائر القوى، عاجز كما لم اكن في أي يوم، لأن قاتليك يحملون وشم عارٍ في جبينهم، كأنهم بذلك يكشفون عن الوجه المستور للقاتل الحقيقي..
أيها الصديق الذي لا أعرفه ولم التقه، أتسمح لي ان أبكيك، لعل البكاء يوقظ ضمائر أوهنها السكوت، وإراداتٍ تآكلت بحكم الإذعان والتواطؤ..
سلامٌ عليك يا محمد عباس
لا عليك، فأحفاد شمر قتلوك في كربلاء...!