غابريل غارسيا ماركيز كاتب كبير، وروايته "مائة عام من العزلة" هي رواية مدهشة. هذا ما قاله قبل أيام رجل أصبح عنده للمرة الأولى الوقت الكافي لكي يعيد قراءة روايات صاحب النوبل. اسم الرجل هو يوري لوسينكو، وهو سياسي اوكراني معروف عاش للتو سنتين و16 أسبوعاً من الوحدة: في السجن (مدة العقوبة التي كان عليه قضاءها). لوسينكو الذي هو في الأصل مهندس، كان قد ترك وراءه صعوداً وظيفياً في اوكرانيا، يذكر بصعود بعض السياسيين في غرب أوروبا، مثل وزير الخارجية الألماني السابق، يوشكا فيشير، رغم أن ما فعله يحمل الكثير من المغامرة في شرق أوروبا أكثر منه في غربها: من ثورجي شاب (في كل الأحوال بشكل مسالم) ومكافح في الشارع إلى وزير.
بعد الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004 تبوأ لوسينكو منصب وزير الداخلية في الفترة التي حكمت فيها يوليا تيموشينكو، التي لا تزال تجلس في زنزانتها الانفرادية. لهذا السبب كان عليه الانتهاء إلى السجن، حتى حصوله على العفو قبل فترة قصيرة من قبل رئيس الدولة الأوكرانية يانوكوفيتش.
لوسينكو قرأ وراء القضبان - في السجن المعروف في العاصمة كييف "كاتكا"، والذي أمرت ببنائه كاترين الكبيرة - 300 كتاب. من يسمعه يتحدث، كما تحدث في ريبورتاج تلفزيوني، سيسمع صوت رجل مدخن فيه نبرة تشير للاضطراب مقدماً، رغم أنه كما يقول عن نفسه، يشعر بأنه أكثر ثباتاً اليوم مع نفسه عنه قبل دخوله السجن. الهدوء هذا له علاقة بالدهارما، قانون البوذية، الذي درسه خلف القضبان. القانون هذا علمه، بأن أي سعي للثأر هو جهد ضائع. "إذا كان المرء سرق سنتين من حياتي بشكل ظالم، فأنا أعرف الآن: عليّ ألا أضيع ولو يوماً واحداً من حياتي بالتفكير بالثأر من المذنب".
من سجنه بنى السجين السابق أيضاً جسراً مع أهم روايات الأدب الأوكراني، رواية أوسكانا سابوشكوس مثلاً، "متحف الأسرار المفقودة"، التي تشتغل على تاريخ أوكرانيا من الحرب العالمية الثانية حتى التسعينات. منها تعلم كيف أن في الأزمان هناك مجالا للشجاعة وآخر للنذالة. "الأمر يظل خاصا بالإنسان، أنه حر كيف يتصرف".
أكثر الأعمال أهمية له في السجن يظل هو رواية "واحد طار فوق عش الوقواق"، للأميركي كين كيسي والتي تطرح مقاومة مرضى كان عليهم الجلوس في مستشفى للأمراض العصبية. في حديثه عن الرواية يستحوذ عليه الوجد. لأنه وجد في بطل الرواية شريكاً له بالحديث فيما يتعلق بالقضية الخاصة به، "كيف أتصور حياتي في السياسية". وكما يقول، المهم، أنه حاول في الأقل، العمل ضمن حدود إمكانيته.
مرة أخرى وعودة إلى ماركيز، يظل بالنسبة للوسينكو "الحب في زمن الكوليرا"، هو أكثر الكتب روعة التي قرأها في فترة السجن، لأنه يتحدث عن "مسؤولية الإنسان أمام الله وأمام نفسه". في فترة سجنه كان يستطيع التراسل من سجن إلى سجن مع جوليا تيموشينكو، رئيسته السابقة، وهذا ما جعله يقترح عليها في أحد رسائله قراءة هذا الكتاب.
ثم يتذكر، كيف أنه فكر بكتابة بعض الشهادات، مثلاً تلك الشهادة التي تقول: "في السجن يعوض الحب عن السعادة. في حياته يجد الإنسان عموماً السعادة في الوظيفة، في الحياة الإنسانية المشتركة، وفي الفن....أما "في السجن يبقى أمام الإنسان فقط الحب."
هنا نصل إلى رباط قصتنا. زبدة الكلام: إيرينا، زوجة لوسينكو، ظلت تكافح خارج السجن طوال السنتين التي قضاها زوجها في السجن مثل لبوة في سبيل زوجها. النتيجة التي وصل إليها الزوج لاستخلاص تجربة زواجهما بعد سنتين من السجن هي جميلة جداً. فكما يقول "قبل سجني كنت أحببتها. الآن أشعر نحوها بالافتخار". الحب في أزمان الرئيس يانوكوفيتش: ربما سيكتب ذات يوم كتاباً تحت هذا العنوان.
من يعترض إذن الآن على الدرس الذي تقوله لنا القصة هذه؟ ماذا لو أدخلنا السياسيين السجن؟ أية فائدة عظيمة ستكون لنا؟ الفائدة ستكون أعظم طبعاً إذا تعلق الأمر بسياسيينا العرب والعراقيين بصورة خاصة، الذين أكثر من 90% منهم أميون، لم يقرأوا ولو كتاباً واحداً في حياتهم، لكي لا نتحدث عن علاقاتهم الخالية من الحب بزوجاتهم!
ماذا لو أدخلنا السياسيين السجن؟
[post-views]
نشر في: 2 يوليو, 2013: 10:01 م