تتسع دائرة السجالات في مواقع التواصل الاجتماعي، بين نخبنا الثقافية ونشطاء المجتمع المدني، حول المشهد السياسي المصري وتداعياته الشعبية وصلابة الدور الذي يضطلع به الشباب والمثقفون في تعبئة الرأي العام ضد استبداد الإسلام السياسي. ويتركز جانب هام من هذه السجالات على محاولة إسقاط المشهد المصري على العراقي، والأسباب التي تعيق ذلك، دون أخذٍ بالاعتبار افتقار الواقع السياسي العراقي إلى دينامية العوامل المحركة التي تقف وراء انخراط الملايين من المصريين في الحراك الشعبي والنزول طواعية إلى الميادين والشوارع في سائر مدن ونجوع مصر العظيمة. وكذلك إغفال عوامل موضوعية وذاتية تتعلق بالتركيبة المجتمعية المصرية، التي تختلف في جانب منها، في وحدانية الانتماء الطائفي للإسلام السياسي، بينما يشهد الحال عندنا، هذا التعدد التنظيمي-السياسي، والمرجعي الأصولي.
وربما من المفيد الالتفات إلى الدور التخديري الذي لعبته وما تزال الإمكانات المالية الضخمة، من موارد النفط، واستخدام فتات منها فيما يُشبه الرشوة غير المباشرة لشرائح اجتماعية بعينها، وإظهار التحسن النسبي الذي طرأ على حياة المواطنين، كما لو انه من إنجازات الحكومة، مع أن مليارات الدولارات تم إهدارها ونهبها، دون أن تغيّر من الحالة المعيشية والأمنية لعموم الشعب، في ظل بقاء ملايين العراقيين تحت خط الفقر.
ولكن العامل الرئيس الذي مكّن الطبقة الحاكمة للإسلام السياسي، من احتواء الأزمات المتتالية وتنفيسها والقدرة على تجميد فورة غضب الجموع الشعبية، هو اعتمادها على تغذية الاستقطاب الطائفي، وشحذه والإبقاء عليه في حالة من الاستنفار، وتصريف استيائها في مواجهاتٍ مع "تآمر" يستهدف وجودها ومصدر نفوذها في الحكم، وهو استنفارٌ استطاع أن يوقع أوساطا واسعة من القاعدة الشيعية، والمثقفين والنخب المدنية في الصدارة منهم، وهذا ما فعلته قوى الإسلام السياسي من الطرف الآخر أيضاً لتقييد إرادتها وتوجيهها نحو ما يضمن مصالحها الضيقة.
وليس دقيقاً ما يقال عن انكسار إرادة العراقيين ونفاد طاقتهم، والصحيح أن حشوداً من الأوساط الأكثر وعياً منهم، استطاعت أن تنخرط في حراكٍ شعبي ضد أكاذيب الحكومة ومفاسدها وعجزها عن الإيفاء بأبسط التزاماتها في توفير الخدمات والكهرباء والماء الصالح والأمن، وتخفيف البطالة المتفشية واحتضان لصوص المال العام ومواصلة نهب الدولة. لكن ما أجهض حراكها تراجُع النخب التي تصدرت المشهد، وتعثر إرادتها، واستسلام أوساط منها للوثة الطائفية، وتواطؤ آخرين في عمليات إغراء ومساومة.
وتلعب دوراً هاماً في تمييع الحراك الشعبي، عزلة نشاطات النخب في فعاليات يغلب عليها الطابع الثقافي أو الخدمي البسيط، وتحديد مواقع نشاطاتها في العاصمة بعيداً عن مواقع تواجد وتجمع المواطنين، واستسهال إطلاق مبادرات تهدف لاستقطاب عشرات أو مئات، وربما لا تتحمل تلك المبادرات أكثر من ذلك. وتغيب عن هذه النخب والقوى المدنية أوضاع ومطالب الملايين من الفقراء الذين يعيشون في العشوائيات وبيوت الصفيح والعراء، يلتقطون رزقهم من مكبات زبالة بغداد والمحافظات الأخرى، ويمدون أيديهم إلى براميل القمامة للبحث عن بقايا طعام ملوث، ليعينهم وعوائلهم على البقاء أحياء.
إن صيحة الحرية لن تصل الى الملايين المذكورة، وأكثريتهم لا يعرفون معنى "نهب المال العام" ولا يدركون مغزى الفساد المالي والإداري، كما لا يستوعبون انعكاسات "الولاية الثالثة أو الرابعة" للمالكي، ولا يفقهون المصطلحات التي تستخدمها النخب ومنظمات ونشطاء المجتمع المدني.
والملايين المهدورة كرامتها في المدن والأرياف بسبب البطالة والغلاء وما يُشبه المجاعة، تنساق بفطرتها وراء من يتعاطف مع محنتها، ويضع صياغة مفهومة لها ولأسبابها والمتسببين بها، ومن شأن الاقتراب منها، والتفاعل مع معاناتها من مواقعها، الارتقاء بمستوى استعدادها لتتفهم الارتباط العضوي بين الحرية والحفاظ على سويتها الآدمية، ولتدرك أن حياتها لن تتغير إلا إذا عبرت هي بشكل مباشر عن معاناتها.
إن سجال النخب حول المشهد الجماهيري المصري العظيم، ومحاولة استقدام عدواه إلى مراتع إسلامنا السياسي، هو استمرار في الاستغراق في غواية "الجملة الثورية" المعزولة عن سياقها الواقعي.
ومن يعيش على عدوى نجاحات الجيران يظل يحاكي ما درسناه في كتاب القراءة القديم، من مصير الراعي وجرته.
وتظل العدوى المطلوبة من المشهد المصري، هي بالعودة الى منابع الحراك والإرادة الشعبية، والبحث في مساماتها عمّا يعبر عن نبضها، وتحويل ذلك الى مبادرات خلاقة تحتاج دون شك الى الصبر والمعاناة والتضحية..!
المراهنة على تسلّل عدوى مصر ضربٌ من أحلام اليقظة..!
[post-views]
نشر في: 2 يوليو, 2013: 10:01 م