كبريات مراكز الأبحاث في العالم تعترف بأن من الصعب تخمين مستقبل الأحزاب الإسلامية، لكن الكثير من علمانيي العراق وخلال أسبوعين (من تظاهرات إسطنبول إلى هزيمة مرسي غير المأسوف عليه) نجحوا في إصدار فتوى علمانية بقرب نهاية الأحزاب الدينية في الشرق الأوسط.إن التورط بنتائج متعجلة كهذه يثبت لي مرة أخرى كمتابع للفكر الديني وناقد له، أنّ كثيرا من علمانيي العراق بلا خبرة كافية بالمجتمع الديني. وقد قام العرب والأتراك والإيرانيون، بإنجاز أعمال مهمة أنتجت سجالا عميقا مع مقولات الفكر الديني، بينما تكاد الثقافة العراقية تخلو من جهود نقدية كهذه. ولا يزال المثقف العراقي غير جاد في محاولة تتبع الظاهرة الدينية، وينتظر معجزة للخلاص من الأحزاب الإسلامية، ولذلك بقينا بلا خارطة طريق وطنية وبلا خطاب مصمم بعناية للتعامل مع مراكز القوى التي تصوغ سياسات الدين.ولذلك لم تكن هناك فرصة تذكر لانطلاق حوار علماني ديني في بلادنا، بينما فتحت الكثير من البلدان هذا الملف، ونجح علمانيوها في تشجيع الإسلاميين على لغة المراجعة والإصلاح، وبات لدينا إسلام معتدل هو أفضل طرف يقنع جمهور المؤمنين بأن أمثال الزرقاوي منزوعو الشرعية.
لكن مشكلة الدين في مجتمعاتنا أنه ظل يدار سياسياً من قبل فئة أغلبية متشددة لا تؤمن بالتعايش كصيغة حياة وإنما تريد إخضاع جميع "الكفرة" لطريقة حياتها هي. وقد جرّب علمانيو الشرق إلغاء التيار هذا وحظر نشاطاته. ولكن لم ينجح هذا حتى الآن، بل إن القمع قام بتوليد ردة فعل متشددة وتفريخ جماعات مسلحة تعتقد أنها تدافع عن السماء بإحراق الأرض.
والعلماني حين يرغب بإلغاء الأحزاب الدينية، يصبح شبيها بالإسلامي المتشدد الذي يتمنى أن يصحو صباحا فلا يجد أي أثر للعلمانيين. وفي الحقيقة فإنني أيضا أتمنى أن أصحو ذات يوم ولا أرى أثرا للتشدد الديني. غير أن قواعد عمل التاريخ لا ترسمها الأماني أبدا، سواء كنا أمام أمنية إسلامية أم علمانية.
لكن في وسع علمانيي العراق وضع مبادئ التعايش على طاولة مفاوضات مسؤولة تتجنب أي لون من لغة الإخضاع والتعالي في الحديث مع التيار الديني. وهناك اتجاهات مهمة داخل التيار الديني يمكن ان تكون مستعدة لخوض حوار كهذا رغم تحرجها من جمهور متزمت في إيمانه. لكن التحرج من الجمهور سواء كان علمانيا أم دينيا، لا بد ان ينتهي حين نكون أمام قضايا مصيرية تتعلق بـ"فن إدارة اللعبة الاجتماعية".
مشكلة بلد متنوع كالعراق هي أزمة تعايش بين الطوائف والقوميات، والأيديولوجيات أيضا. ومن غير المعقول ان نفكر بتسويات تصالحية بين الكرد والعرب، والشيعة والسنة، ثم نتخلى عن المنطق التفاوضي في مقاربتنا للعلاقة بين العلمانية والإسلام، ونبدأ باستخدام لغة المحو والإقصاء والقطيعة.
لقد عاش الإسلاميون سنوات طويلة من القمع، وكثير من العقلاء يحاولون إقناعهم بأن ردة فعلهم على فترات الاضطهاد، يجب أن تبقى "تحت السيطرة"، وأن عليهم التخلي عن منطق التشدد للانخراط في "واقعية سياسية" تلائم هذا الزمان.
ومنذ وقت طويل يتعرض العلمانيون في العراق أيضا إلى "قمع ثقافي" على يد التشدد. لكن علينا كعلمانيين أن ندرك أنّ التعامل مع هذه المشكلة الثقافية، يجب أن يبقى "تحت السيطرة" أيضا، وإذ يقول العلماني انه اكثر استيعابا لمبادئ التعايش التي تأسست عليها الحداثة السياسية، فإن ذلك يؤهله لإطلاق حوار تأخر كثيرا بين العلمانية والدين. وحوار كهذا هو الطريق الوحيد لبناء التسوية الثقافية التي تقنع الجمهور الديني بأخذ مكانه كشريك حقيقي داخل تمدن مستقر سيكون من شروطه استيعاب التناقضات الثقافية المتنوعة. الخلاص من التشدد الديني سيكون منوطا بالتخلي عن التشدد العلماني. والخلاص من المعالجات السطحية المضحكة التي تستولي على عقول كثير من الإسلاميين، منوط بالخلاص من معالجات سطحية أيضا تستولي على عقول كثير من العلمانيين.
الواقعية السياسية هي دواء لشعب بقي ضحية للمثالية الراديكالية. والواقعية السياسية تعني العثور على تسوية لا تلغي طرفاً، لأن لعبة الإلغاء إذا بدأت فسيكون من الصعب إيقافها، وهذه اللعبة جعلتنا نخسر قرناً كاملاً في التناحر الوطني. والتصفيق لنبوءة مستعجلة بشأن نهاية الأحزاب الإسلامية، هي مثالية راديكالية تفاقم المأزق. وربما نحتاج قبل أن نقترح حوارا بين العلمانية والدين، أن نخوض حوارا داخليا كعلمانيين نتفق فيه على حدود الواقع والمثال، وأن نعيد قراءة تاريخ الإصلاح الديني في تجربة الغرب بشكل جيد.
إنّ أكبر أحلامي هو أن أعيش في بلاد تمنحني حرية الأميركان. لكن التساهل في تحليل مصير الإسلام السياسي لن يقودنا إلى عالم كهذا.
العلمانيون والإسلام السياسي
[post-views]
نشر في: 7 يوليو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
riadh al hawas
نشخيص دقيق واعتقد ان اقرب من يمكن محاورته هم الصدريون لانهم اكثر الاسلاميون واقعيه