كتبت امس بشيء من القسوة عن شريحة من العلمانية العراقية لم تصمم بعد طريقة عمل مناسبة للتعامل مع أحزابنا الدينية ولم تبادر الى تشجيعها على التحول الى شريك أساسي في تسوية ثقافية واجتماعية مشروطة بقبول تناقضاتنا كمجتمع متنوع.
ولاشك ان العلمانية العراقية تتحمل جزءا من المسؤولية في هذا الاطار، لكن هذا لا يعفي إسلاميينا من استحقاق رهيب يحتاجه الوطن كي يتماسك في هذه اللحظة.
مشكلة التيارات الإسلامية أنها جاءت لتنتصر للمبدأ الأخلاقي السماوي، وهذه مهمة يفشل فيها الكثيرون بعد ان يجربوا تخريب العالم مرات ومرات. بعض التيارات الدينية يئست من إمكانية فعل شيء حتى شرعنت الانتحار كمعنى صعب في لحظة استحالة أي معنى. وبعضها تورط بالسلطة فتكشفت عيوبه البشرية وصار حالة لا أخلاقية محضة، وكان المخلوع مرسي بين الأسوأ حظا في هذا المجال اذ لم يبق سوى عام وبضعة أيام في الحكم وبدا انه خسر دينه ودنياه معا. ولكن هناك تياراً دينياً أمامه فرصة تاريخية كبيرة يمكنها ان تخلصه من مآزق من سبقه.
وفي العراق إسلاميون منحهم الشعب فرصة أمدها عشر سنوات وزادهم أربعة خلال الاقتراع الأخير. صبر عليهم لاعتبارات كثيرة، وانحاز لهم مرة باسم حرارة الإيمان وأخرى باسم التحيز الجغرافي او الطائفي، رغم تورطهم في الخطأ تلو الآخر. وهذا لون من الحظ يمكن ان يتبخر بسبب مفاجآت التاريخ وتغير الاحوال.
لقد حاولت أحزابنا الدينية مثل أخواتها في باقي العالم الإسلامي، ان ترفع المبدأ الأخلاقي كقضية تستحق القتال، وبالغ بعضها وتشدد. لكن عقلاء هذه الأحزاب ادركوا بعمق لمسناه أحيانا، ان فرض شكل الأخلاق على الجمهور وتغيير هوية البلدان وإلغاء تنوعها الثقافي، معركة خاسرة. بل ان كثيرا من رجال الدين بينهم زعيم التيار الصدري وجدوا المبررات الكافية للقول بأن فرض الشريعة بالقسر على الجمهور قد يؤدي الى جعل الناس تنفر من الدين وتعتبره أداة ضغط وإجبار لا إنساني. ومعنى هذا ان في وسع الأحزاب الدينية ان تترك منهج القسر، وتدخر طاقاتها في خدمة مبادئ الأخلاق الرفيعة التي يشترك فيها المتزمت والمعتدل، الإسلامي والعلماني. وقد أبلت كثير من الأحزاب الدينية بلاء حسنا في مناسبات كثيرة، ولا شك انها عملت بجد مع شركائها العلمانيين لتخفيف نوبات الهستيريا التي اجتاحت بلادنا ووضعتنا على حاشية احتراب داخلي. ان وصف "شيعة ضد الحرب" الذي افضل استخدامه للحديث عن كتلتي الأحرار والمواطن وحلفائهما، يشير الى دور وطني متميز لعبه هؤلاء في تخفيف الاحتقان على جبهة طوزخورماتو ومع المحافظات المتظاهرة وفي مجلس محافظة بغداد، وسوى ذلك. وكانت هذه الخطوات تحولا في أداء الإسلام السياسي برهن على انه يستطيع تبني قضايا مشتركة تعزز التفاهم الوطني في اكثر اللحظات حراجة، دون ان ينساق الى مواجهة مع الفنون والآداب وطريقة الحياة الحديثة ويفرض وصايته عليها.
لقد تحققت شراكات محدودة لا تزال محاطة بشكوك من الجانبين. لكن كما ان على العلماني ان يدرك ان جمهور التيار الديني سيظل فاعلا وحاضرا الى ما شاء الله، فان الإسلاميين العراقيين مطالبون بعدم تجاهل حضور العلمانية في بلادنا، واستعداد شرائح نوعية لمختلف أنواع المواجهة دفاعا عن هوينا المتعددة. فلا احد سينجح في إلغاء احد ضمن قواعد لعبة بلاد منفتحة سياسياً. الإسلام السياسي في العراق محظوظ اكثر من غيره. ونحن ندرك ان تطور ادائه وتمسكه بالقضايا التي لا تثير انقساماُ ثقافياً، وإدارته للخلاف بشكل مرن وأخلاق تفاوضية، امر يصب في صالحنا جميعا. فتعزيز نهج الاعتدال سيسهم في نزع الشرعية عن عقيدة الانتحار والتشدد، وسيدافع عن السماء بنحو يليق بسموها. وسيتيح لبلادنا ان تتفرغ لبلايا بلا حصر تحيط بمعاشها ومصائر ابنائها.
الاختبار الذي سيمنح اسلاميي العراق تذاكر انتقال الى ميدان التنافس النظيف، ستحسمه قدرتهم على التعامل بشكل مسؤول مع تنوعنا الثقافي. وسيجدون تفهما واسعا من الأغلبية العلمانية بشأن كل مخاوفهم، وسيكونون شركاء في القضايا الكبرى لا يستغنى عنه. غير ان نسيان الهدف الكبير والتورط بمواجهات تهدف لإخضاع الشعب لصيغة واحدة من الحياة، هو تنكر لكل الصبر الذي أبدته الأمة، على الإخفاق والأخطاء، ودخول مواجهة خاسرة لا مع شباب يحبون تنوع صيغ الحياة، بل مع منطق هذا الزمان الذي سيكون حليف الأكثر مرونة ومسؤولية.
هذه ليست موعظة، انها لحظة تمسك بمشتركاتنا في زمن مواجع بلا نهاية.
إسلاميو العراق "المحظوظون"
[post-views]
نشر في: 8 يوليو, 2013: 10:01 م