قبل دخول الجيش البريطاني البصرة سنة ١٩١٤ بسنوات، بنى الجيش العثماني على نهر "باب سليمان" بأبي الخصيب جنوب البصرة جسرا من الخشب المهوجني ، ولأن هذا النوع من الخشب لا يتأثر بالماء مهما اشتدت ملوحته، ولا تناله معاول الأزمنة وإن قست يد حكامها، فقد ظل شاخصا حتى اللحظة، النهر الذي ما عادت تمخره سفن التمر ولا تمر به عشّاريات الغرام، ظلت خشبات منه علامة تدلنا على قدم المكان وسعة أرواح الناس هنا.
وللذين لا يعرفون من هو سليمان صاحب النهر نقول انه سليمان ابن جامع، أحد قادة صاحب الزنج علي بن محمد، الذي قتله الخليفة الموفق بالله العباسي وابنه محمد في الواقعة المعروفة سنة 126 للهجرة، بعد أن كاد يطيح وجيشه بدار الخلافة كلها في تلك الثورة.
والنهر المتفرع من شط العرب، دخله الملك فيصل الثاني قادما لأبي الخصيب بمركب يعمل بالبخار، ولأنه كان على صورة الجمال كلها فقد بنى أكابر ووجهاء المدينة بيوتهم على ضفته، أولئك الذين قدّموا القهوة للملك المعظم بفناجين من ذهب على صواني الفضة، بعد أن زرعوا الورد والعنب والتفاح والرمان على ضفتي النهر وفرشوا السعف الأخضر على الطريق الترابي من مرسى الزوراق عند الجسر العثماني هذا، حتى بيت الوجيه سليمان الموسى. الجسر هذا حامل تاريخ مدينة تموت كل ساعة بسبب إهمال الحكومة لها. وكان المحافظ قد وعد سكان القرى هناك بتعميره، لكنه لم يفعل. واليوم تتناوشه يد البلى، وتفكك آخر مساميره مطرقة الإهمال والنسيان فهل من مُدّكِر؟
ولأن حكومة محلية جلّ أعضائها من كيانات إسلامية منغلقة لا يعنيها من التاريخ إلا ما اتصل منه بالطائفة، فهي غير معنية بما خلف اهل المدينة الأولون من آثار، وهكذا نشهد كل يوم ، كل عام فقدانها لأحد معالمها، من يتذكر قصور أسرة النقيب في قرية السبيليات على شط العرب، من يتذكر ساعة سورين التي بناها التاجر الأرمني في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي في تذكر متحضر لساعة "بك بن" اللندنية، ومن يتذكر ركن مسجد البصرة الكبير (مسجد الإمام علي) الذي بني سنة 14 للهجرة في المنطقة المعروفة اليوم بالخطوة، والتي شوّه معلمها أحد (المحسنين) حين بنى عليها مسجداً لا يختلف عن المساجد التي تبنى اليوم بالطابوق والاسمنت مشوها بذلك أقدم أثر إسلامي في العراق كله؟
وقبل شهر من تاريخ كتابة ورقتنا هذه سقط الركن المحاذي لطريق ابي الخصيب -البصرة من قبة الولي الزاهد محمد ابي الجوزي، بعد أن سقطت وامّحت بالكامل قبة زوجته الملاصقة لقبته، والطريق هذا مسلوك من قبل القائممقام وغالبية أعضاء الحكومة المحلية، وتحفه سيارات الدولة بكاملها الجيش والشرطة والمحافظ ورئيس المجلس وهيئة السياحة والآثار ودائرتا الوقفين الشيعي والسُني. ترى أليس فيهم رجل رشيد يوصي بترميمه، أم أن معول الهدم لا واقف له، بعد أن فشلت الحكومة في إيقاف معاول التجاوز على المقبرة المحيطة به مثلما فشلت في حماية مقبرة السيد غريب في قرية السادة الرفاعية، وبعد أن خربت أعمال التجاوز من خلال بناء المحال والدكاكين صورة أجمل طريق في العراق، ألا وهو طريق أبي الخصيب الذي لم يبق من هيئته الجميلة تلك سوى ما نشاهده على شريط فيلمي قصير في فيلم (البصرة ساعة 11) الذي أنتج بداية الستينات من القرن الماضي. هل يكره حكامنا الجدد تأريخ وآثار مدنهم التي لا تتوافق مع قراءاتهم للماضي؟
يقول لي أحدهم بأن شيخه في المسجد قال له بأن اليشماغ الأحمر مكروه في الصلاة، ومكروه في اللبس ذلك لأن اهل السُنّة يلبسونه، يا إلهي! وهل يقبل الله صلاتهم به؟ ترى كم سيبقى من بصرية البصريين الذين لا يلبسون اليشماغ الأحمر والدشداشة البيضاء والنعال الزبيري الخرازة، كم سيبقى من البصرة إن لم يعد أحد فيها يزرع نخلة برحي، وكم سيبقى منها إن لم يطرب سكانها لصوت أبو العوف وخضير السياب ومحمد بتور وأبو عتيكة ولطيف الديراوي، وطبلة سعد اليابس وكل فرق الخشابة وبستاتها المعروفة، أي بصرة تريدون ؟ أي معلم من معالمها لم تهدموه بعد؟
جسر باب سليمان وقبة ابو الجوزي ومقبرة سيد غريب وساعة سورين وقصور أسرة آل النقيب وركن مسجد البصرة ونخلة البرحي والمقام الحكيمي والخشابة وطبلة سعد اليابس ومقبرة الحسن البصري، والعشرات العشرات من الأيقونات التي لا يمكن الحديث عن بصرة بدونها، مهددة يا ناس . أما من منقذ لها؟
جسر باب سليمان الخشبي
[post-views]
نشر في: 9 يوليو, 2013: 10:01 م