لدينا في المنزل مكتبة كبيرة من حديد مشبك يمكن تفكيكها إلى قطع صغيرة وإعادة تركيبها خلال عشر دقائق، لمن كان شاطرا في لعبة "ميكانو" في طفولته. والجزء الوحيد من الأثاث الذي يرافقنا منذ سنوات هو هذه المكتبة، لأنها تلائم نمط حياتنا "البدوي" أي نمط من تعود الاستقرار داخل حياة متنقلة! فقطع الأثاث الثقيلة تباع وتشترى وتعطب أثناء النقل، إلا تلك المكتبة "الميكانو".
الإنسان البدوي الأول الذي كان صيادا أو راعيا في السهول حيث لا يوجد كهف، هو أول من اخترع منطق "ميكانو" فمنزله "الخيمة" عبارة عن بضعة أعمدة وخيوط وسقف متحرك، يمكن تفكيكه وإعادة تركيبه بسرعة، طبقا لتغيرات الطقس وموازنات الحب والحرب والنزاع والسلم. وبذلك فان المترحل سبق بآلاف السنين ذلك المصمم الإنكليزي الذي صنع لعبة المكعبات الأكثر شهرة في لندن قبل ١٢٠ عاما.وخلال انشغالي بمحاولة تركيب "المكتبة الميكانو" في منزل استأجرته قبل أيام وأعاد لي ذاكرة تنقلات بلا نهاية يألفها أبناء المدن المحاربة (المدمنة على الهزيمة في الواقع)، أخذ منطق الميكانو وعقل ذلك البدوي القديم يهيمن على نشاط التأويل الذي يمارسه المرء كل يوم.
رميت بقطع المكتبة حين تذكرت إنني وعدت الزملاء في تحرير الأخبار بتأمين اتصال مع رئيس حكومة محلية مهمة شغل منصبه حديثا، والحدث جعلنا نفرح لحصول تداول وانتقال للسلطة في محافظته. وهكذا أمضيت ربع ساعة أتحدث مع مدير مكتب المحافظ لشرح تفاصيل الحوار الصحفي الموعود، لكنني أثناء هذا شعرت بخيبة لأن هذا الشاب المسكين جرى وضعه في واجهة وحدة إدارية كبيرة يقطنها مئات الآلاف من العراقيين، ويتوجب عليه ان يتواصل مع جهات معقدة محلية وأجنبية، أي انه واجهة تلك المحافظة في اكثر الملفات حرجا. إلا ان المسكين إنسان بسيط بلا تدريب ولا فطنة فطرية وباختصار "لا يعرف ساسه من راسه". وليس ذنبه انه احتل هذه الواجهة، وإنما ذنب منطق اللااستقرار الذي يمنع مؤسسات الدولة من التمتع بالحد الأدنى من التراكم في الخبرة، ويجعل العراقيين يبدأون دوما "من الصفر"، وحين تأتي حكومة جديدة فإنها تقوم بتشكيل طاقم جديد، يرتكب أخطاء جديدة، ويبدأ لتوه بتعلم ما ينبغي تعلمه.
دولتنا من هذا المنظور بدوي عملاق يتنقل باحثا عن بدايات جديدة، ولن يتاح له ان يتولى مراكمة حجر على حجر لبناء تقليد مستحكم يصمد أمام عواصف الزمان. دولتنا ترتهن بمنطق ميكانو، القلق والمصنع خصيصا ليجري تفكيكه وإعادة تركيبه بسرعة. وهذه طريقة تخدم حاجات البدو أمثالي للترحال الدائم، لكنها لن تبني للبدوي مدينة أو أمة مرصوفة حجرا على حجر يمكن ان يقاتل دفاعا عنها حتى الموت، فالخيمة ليست إرثا متواصلا جرى تلصيقه بعرق الجبين على مدى قرون.
وللأسف فإن عراقيي اليوم لم يرثوا تقليدا في السياسة يعينهم على تجاوز جبل الويلات، وصار انتقال السلطة لديهم، انتقالا في كل شيء مقترنا بتلك البدايات "الصفرية" المثيرة للكآبة. بينما يقتصر انتقال السلطة في البلدان المستقرة ديمقراطيا، على انتقال التمثيل السياسي في رؤوس السلطة، الذين سيكون دورهم التعرف على خبرات مؤسسة السلطة القديمة واستثمارها من حيث انتهت إليه في تدريبها وإمكاناتها، ولذلك سيكون من الصعب على إنسان حديث ان يتخيل مدير مكتب المحافظ العراقي الذي يريد ان يبدأ من الصفر، وكأننا لم نراكم أي خبرة في مؤسساتنا طيلة الأعوام العشرة الماضية.
وفي وسعي الآن ان أستعيد من أرشيف الذاكرة العشرات من الموظفين في الأماكن الحساسة الذين التقيتهم وأصابوني كما أصابوا بالطبع كل من التقاهم، بإحباط وكآبة جعلتنا نشك بباقي المؤسسات الخطيرة وكيف تدار بهذه العناصر المسكينة التي لا يتاح لها ان تتعلم، لأنها محكومة بمنطق "ميكانو" المخصص لبناء خيمة، لا دولة، ولا يعتقد انه بحاجة إلى خبرات كثيرة لتمرير شؤون حياة البدو هذه.
إن حماقاتنا التاريخية أحرقت إرث التمدن، وهجرتنا في معسكرات صحراوية، وجعلتنا نتفرج على جيراننا من أهل الخيام الذين تحولوا بفضل حكمة افتقدناها، إلى "بيت الحجر".
ولذلك فإن سعادتي بالإصلاحات التشريعية المهمة التي يشهدها البرلمان، والتي تحدثت عنها في مقال الأمس، تعرضت إلى صدمة أخرى حين تحدثت مع "واجهة المحافظة" في الصباح. إذ ربما ستصبح لدينا قوانين متطورة حقا تصلح لإدارة بلد تعددي ديمقراطي، ولكنها قد تكون اكبر من مقاييس تلك "الخيمة" الميكانو التي يجلس تحت خبائها العديد من سلاطين العراق اليوم. إنّ التعلم عملية بطيئة في بلادنا.
محافظ في خيمة
[post-views]
نشر في: 10 يوليو, 2013: 10:01 م