احد شعراء الجيل التسعيني كان يعمل في زمن فرض العقوبات الاقتصادية على العراق ، في مطبعة تقع في منطقة البتاويين بجانب الرصافة من العاصمة بغداد ، لم يسعفه الحظ في نشر "منجزه الإبداعي " في الصحف اليومية آنذاك ، لان محرري الصفحات الثقافية وقتذاك يرون قصائده غير صالحة للنشر ، على الرغم من ادعاء الشاعر بانه صاحب "مشروع كوني" تخطى المنجز الشعري المحلي ، وترك الشعراء وراءه بمسافة مئات الكيلو مترات، يلهثون خلفه، لزعمه بانه متنبي عصره ، أما الاخرون فهم مجرد أرقام سوف تعلن انسحابها عاجلا أم أجلا من الساحة الشعرية.
بعد فشل محاولات الشاعر في نشر قصائده ، قرر واستجابة لدعوة زملائه طبع مجموعته الأولى وتوزيعها مجانا بين الشعراء و النقاد والباحثين والدارسين ، لكي يحقق أمنيته في إحداث زلزال بالمشهد الشعري العراقي ، وتضاف مجموعته إلى مجاميع أخرى صدرت في ذلك الوقت طبعت بطريقة الاستنساخ وبأحجام صغيرة ، لان اغلب الشعراء من الأسماء المعروفة لم تتوفر لهم فرصة طبع أعمالهم من قبل الجهات الرسمية لأسباب كثيرة ، من ابرزها أن قصائدهم لا تنسجم مع الخطاب الإعلامي الرسمي ، وتعكس معاناة حقيقية لجيل كامل من الشباب العراقيين خاضوا الحروب، وخرجوا منها بعاهات وخيبات امل، وشكلت المجاميع الشعرية الصغيرة ظاهرة في الحياة الثقافية ، بوصفها صرخة احتجاج تجاوزت حدود سلطة الرقيب.
صاحبنا الشاعر ، وفر عمله على مقص الورق في المطبعة الكمية المطلوبة لطبع مجموعته الأولى ، وسبق ذلك قيامه بحملة ترويج واسعة بان المشهد الشعري سيشهد تحول مابعد الحداثة ، وبعد طبع 50 نسخة قام بتوزيعها ، منتظرا ردود الأفعال ، متابعا ما تنشره الصفحات الثقافية عسى ان يجد فيها مقالة نقدية تتناول مجموعته بالدراسة والتحليل ، وخابت آماله عندما نصحه احد النقاد الاكاديميين بالابتعاد عن "الخريط" والاهتمام بتطوير أدواته وإجادة قواعد اللغة ، ومعرفة المرفوع والمنصوب والمجرور ، فرد الشاعر على الناقد " انه غير معني بالنحو بقدر تهشيم اللغة من خلال استفزاز مجسات المتلقي ، لفهم الخطاب الداخلي للنص ، وهذا ما أريد قوله في مشروعي الشعري " .
ابرز ما حققه الشاعر في مشروعه انه اهدى مجموعته إلى احد منتسبي الأجهزة الأمنية المكلفين بزيارة المطابع لمراقبة عملها، خشية قيامها بطبع أو استنساخ كتب ممنوعة ، وكانت عبارة الإهداء "إلى رجل الأمن المبدع الأستاذ فلان الفلاني مع التقدير والاحترام " ومذيلة بتوقيع الشاعر ، والعبارة ذاتها وجهت إلى الناقد المبدع ومدير المطبعة المبدع وعمالها ، وبائع الفلافل المبدع ، وسلسلة طويلة من المبدعين وصل عددهم إلى 50 شخصا بقدر عدد النسخ المطبوعة.
الاكتشاف الوحيد أو الاستشراف المستقبلي المتحقق من مشروع الشاعر الذي اعتزل كتابة الشعر و أحال نفسه للتقاعد بعد انضمامه لاحد الأحزاب السياسية الحالية اشارته إلى وجود "رجال امن مبدعين " بالإمكان تسخير جهودهم في الوقت الحاضر لتحسين وتطوير إدارة الملف الأمني .
رجل الأمن المبدع
[post-views]
نشر في: 10 يوليو, 2013: 10:01 م