اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > صدمة الحدث العراقي وتداعياته في أعمال الفنان محمد مهر الدين الأخيرة

صدمة الحدث العراقي وتداعياته في أعمال الفنان محمد مهر الدين الأخيرة

نشر في: 12 يوليو, 2013: 10:01 م

كان في إمكان الفنان(محمد مهر الدين) أن ينتج أعمالا فنية كما يودها أن تكون ضمن تقادم أزمنة مسيرته الفنية المعروفة, بمعنى, أن تتوسع وتغتني تقنيا وجماليا باستمرار(وهو ما فعله في العديد من الأعمال منذ عقد من السنين, أو أكثر بقليل) متجاوزا بها ضغوطات أزمن

كان في إمكان الفنان(محمد مهر الدين) أن ينتج أعمالا فنية كما يودها أن تكون ضمن تقادم أزمنة مسيرته الفنية المعروفة, بمعنى, أن تتوسع وتغتني تقنيا وجماليا باستمرار(وهو ما فعله في العديد من الأعمال منذ عقد من السنين, أو أكثر بقليل) متجاوزا بها ضغوطات أزمنته السابقة لما قبل تفرغه بشكل كامل, و ليمارس حريته الشخصية والأدائية. واعتقد, كما كان يتمنى ان تكون استراحة أيام عمره المتقدمة. هو الذي امتلك حصيلة تقنية مبهرة, غالبا ما تثير الدهشة التي هي غير بعيدة أيضا عن إثارة أسئلتها الوجودية الملتبسة. وان كان الوجود(المنتهك) مجالا, او لغزا حاول تفكيك احجياته لسنوات الثمانين العراقية(وما قبلها), سنوات اندلاع شرارة النار التي لم تنطفئ لحد الان. لكنه وكأي إنسان عراقي عركته الأزمنة المتقلبة, وللحد الذي نأته مؤخرا حتى عن بغداده التي كان احدى شواخصها الفنية. وهو الذي لم ينأى عن بذل أي جهد ممكن من اجل الاستمرار في المحافظة على الامساك بأحلامه التي رعتها ازمنته حتى كبره, مثل كبار الفنانين. الا ان هذا الحلم تصدع شظايا في رسوماته الأخيرة.

أحلام الفنانين, كما أعمالهم. عوالم قصية, وعوالم على تماس بمستويات متعددة من سلوكيات حوادثهم الشخصية. لكن غالبا ما تنهار الحدود الفاصلة ما بينهما حينما يكون الفنان مشتبكا وفضاءاته الأدائية. وإذا ما عرفنا بأن تواريخ سيرة محمد مهر الدين لا تخلو من اشتباكات ومحيط لا يستسيغ سوى القمع والمداهنة, وليس له سوى فرجة صغيرة حاول قدر استطاعته استغلالها بأفضل ما يكون, ليوصل خطابه الفني الذي لا يخلو من تحريض مبطن لكل انتهاك للحقوق والمصائر الإنسانية, واستطاع ان يحافظ على خطابه هذا لعمر متقدم. مثلما عرفناه واطلعنا عليه, لم يكن خطابه مفضوحا بمباشرته. بل كان موغلا في رمزيته الحديثة التي لا تفقد دلالاتها, والتي كانت حديث الوسط الفني والثقافي العراقي لسنوات عدة. واعتقد أن خطابه لم يكن في استطاعته ان يصل لمدياته هذه, بدون مشاكسة أدواته التنفيذية التعبيرية المتقدمة ومفاجأة حتى الوسط الفني بتقنيتها. هذا الأمر بالذات يحيلني الى ما تعنيه التقنية الفنية في عصرنا الحالي من أهمية فائقة. فليس غريبا ان ترتبط أواصر أحلام الفنان بأدواته التقنية بشكل من الأشكال, فوضوحها مرتبط بمقدرتها الأدائية أولا وأخيرا.
مهر الدين ابن مدينته, هو لا ينفصل عن محيط انشاءاتها الحضرية, مثلما هو مسكون بأحياز فضاءاتها المعمارية. لذلك غالبا ما ترتهن انشاءات عمارته الفنية لعمارة مدينته وملونتها. السطح والكتلة(التراكمية غالبا) والخطوط والمساحات ذات الثلاثة أبعاد أو المسطحة, بمستوياتها المختلفة. الرموز والعلامات الرقمية والهندسية, مستواها الأول. الخطاب تدوينا وصوره الفوتوغرافية الموظفة ضمن مبثوثاته, هو مستواها الإضافي الثاني. لذلك فان أعماله تجمع ما بين الخطابين, الصوري, والعلاماتي بمرجعية الاثر المديني, كما هو ظاهر واضح, وباطن ملغز. كل ذلك مرتبط بولع تقصي حوادث مدينته, التي هي بؤرة الحدث العراقي وأزمنته الاغترابية.
لم يكن للعولمة المعاصرة من انشغالات أفضل من انشغالاتها بالهيمنة على المدينة أسواق أثيرية, سخرت لها أفضل وسائل تقنياتها السائلة العابرة للقارات. وهيمنت على مقدرات الشعوب, بالعلن والخفاء, بما نصبته من فخاخ صورية مبهرة, واقحامية جبرية متعددة, ومتجددة باستمرار, ولا تزال. و لم يكن عبثا انتباهة محمد مهر الدين لخطورة(فخ العولمة) الساعية لمسخ التراث المدني في مفصل تعدديته القارية, والاستعاضة عنه باستنساخاتها الاحادية, إضافة الى مصادرة ثروات الدول. لقد بذل جهدا فريدا في حقبة التسعينات لجعله من أولويات خطابه الفني التحريضي الذي نضجت أدواته بأوضح ما يكون منذ ثمانينات القرن المنصرم. وبعد ذلك, حينما تجسدت العولمة في أدوات الحرب الأكثر فتكا في تهديمها للبنية التحتية للعراق وبلدان أخرى. ومثلما أتحفنا قبل ذلك بأعمال واقعية انتقاديه لا تزال آثارها محفوظة في ذاكرة الفن العراقي. ولم يكن في كل ذلك بعيدا عن ممارساته الثقافية الاعتراضية التي وسمت شخصيته ونتاجه بميسمها. لقد كانت أعماله عن(فخ العولمة) متخمة بإشارات وثائقها, وللحد الذي شكلت إشارتها الوثائقية والغاز دلالاتها فخاخا مضادة, كان لا بد له من اشهارها, كشفا لاحجياتها التي لم تعد خافية على احد.
لبنية العمل الفني مسارات خاصة, هي بعض من وسائل الفنان للتعبير عن ذاته الفاعلة وسط محيطها. وللذات الفنية مصادرها المعرفية والذوقية التي تمهد لها سبل الافصاح عن مكنوناتها. والعمل الفني منتج ذو طبيعة تراكمية, كما الذات في مسيرة بناء نضجها. ومن خصائص اعمال مهر الدين هو طبيعة بنائاتها التراكمية, سواء الاشارية منها او بنية تقنية العمل نفسه. سواء في أعماله السابقة أو الحالية. وان اختلفت مشهديتها بعض الشيء. فهو, وفي كل ممارساته الفنية, مولع في تنفيذ حفرياته التي هي على تماس مباشر بوعيه المعقلن. فللدماغ في اعماله حصة لا يمكن إغفال مفعولها البراكماتي والانفعالي في ان معا. 
لتتابع الحدث انهيالات أفقية. هذا ما تخبرنا أو تلمح به أعماله الفنية الانتقادية السابقة. احداثها صور, تتابع في انشطارات افقية, غالبا ما تنحدر للأسفل, كما هو الزمن العراقي الحالي. وهو في هذه الأعمال يتحاشى شطر العمل لقسمين متعادلين افقيا ليتدارك حدوث خلل فني في تركيبة مظهرية عمله, وليتجنب مقابلات أو صدامات مفرداته المصورة, لذلك تتابعت مستوياته الافقية بحمولة اجسادها الصورية ومعادلاتها الإشارية ولتتداخل أحيانا اخرى, إفصاحا عن انحدارات مصائرنا وحوادثنا وتداخلها.
لم يعد لتتابع الحدث من أهمية في وقتنا هذا. ما دمنا, وكعراقيين مرصودين لقدر الدم السائل على اعتاب مدننا يوميا. فاي وحش هو انسان او الة القتل المعولمة التي رصدتنا بعد 
زمن الاحتلال المبرمج وتداعياته, زمن الآلة المبرمجة أرقامها على شطب انسانيتنا من الوجود, سواء كانت آلة مستوردة, أو شخصية آلية محلية خضعت للبرمجة هي الأخرى التي ساوت ما بين الانسان ووحشه المقنع خلف نزوات أطماعه وشراهتها التي لا مثيل لها في تاريخ العراق. لم تعد لملونة مهر الدين المدينية من معنى ضمن وقائع ايامنا الحادة هذه. لقد تم الفرز ما بين الظلمة والنور. وانتصرت الظلمة. كما هي إدانتها في أعماله الجديدة التي شطرت غالبيتها العمل عموديا الى نصفين, اسود وابيض. أو شطرت العديد من شخوصه أيضا الى اسود وابيض.
في أعماله الأخيرة هذه تم الفصل ما بين الوثيقة والحدث, لصالح الحدث الذي تجاوز ما قبله, ولا ندري ما بعده. الحدث صادم, رغم وهم مألوفية تكراره(المقصودة), مجازر لا تنتهي. الحدث مواجهة مباشرة ما بين قطبي جغرافياه التي شطرت فضاءات المدينة عموديا لنصفين. القتيل. ووصاة ومتعهدي القتل. لا مبالاة معمدة بالدماء, ولا مبالاة سادرة في غيها, وليس سوى الأحمر القاني من يفصل بينهما. لقد اطلق مهر الدين مسوخه تعبث على صفحتها السوداء. ولتترك اثار ملوثات اشباحها على بياض الصفحة المقابلة لتفقدها طهرها, ولتدنسها بجرمها الذي كثرت شهوده لحد اللعنة.
وثائقه أجساد فقدت انسانيتها, صراع مسوخ حيوانية وآدمية مسترجعة من ازمنة الحداثة الأولى: مفخخة معدة للانفجار, آلية حربية أمريكية تنتهك المكان, حضور صوري للأمم المتحدة على هامش الحدث. أحذية ثقيلة. ثم مسوخ بشرية عديدة. وليس ثمة فسحة من فضاء لتنفس هواء عذب وسط خراب مدينته المتكرر. فهل قصد مهر الدين, رثاء مدينته. ام هو طمرها خلف طبقات عتمة ملوثاتها المتكررة. ان لم يقصد ايضا ادانة من داهن وشارك في كل الانتهاكات القاسية التي ضربتها, شمالا وجنوبا, شرقا وغربا. وجاز لمساحة العويل والنعي لان تتمدد على مساحة خرائطها. فان كانت أعماله السابقة موغلة في مساحات وجزئيات تراكماتها. فلم يعد للتراكم, وهو من فعل أحداث متكررة. ان تتراكم على بعضها, بل هو افترس المساحة, أمكنة منتهكة بتتابع وعلى امتداد سطوح اعماله, ولم يعد المجال يسع لتراكمها, بقد من استدراجها حدثا يوميا غير قابل للاسترجاع. لقد افترست وحوش مهر الدين براءتنا المثالية. وحيث الزمن لم يعد يسع لأية براءة وحتى الافتراضية منها. 
لم تنزل علينا مسوخ مهر الدين من الفضاء, كما هي اعجازات الافلام الهوليوودية. ولا هي من سلالة موروثنا الأثري. هي وكما تبدو بصورها هذه, عالمية المنشأ. لكن من اي منشأ استحضرها. هو لا يترك لنا مجالا للتخمين, وثائقه توكد بانها كائنات ارضية ذات كفاءة مبرمجة للافتراس العضوي, ولم نعد بحضرتها نأمن على أعضائنا الحيوية والضرورية. هي من سلالة بدأت تتشعب في دهاليز مدننا, بعد ان اطلقها المحتل وغير المحتل, ولحد الخوف من تناسلها قبل اجتثاثها وللابد. هي أيضا بعض من تواريخ شخصية ليوميات شوارعنا الملغمة قذائف معدنية. هي بالأحرى الفعل وظله المعدني نفسه.
رجوعا لمدخل مقالتنا عن استراحة فناننا, كما استراحة محارب قضى الوطر الأكبر من عمره في لجة معاركه. عن الأمل في استعادة الصفاء من كل زخم تراكمات تجاربه الفنية السابقة التي شكلت علامات بارزة لمنجزه ولمنجز الفن العراقي الحديث والمعاصر. فهل ثمة هناك بصيص أمل لإدراك حلمه أو رعايته. ام سوف يبقى مهر الدين كما سيرته السابقة مشغولا بهمه الإنساني, معارضا أبديا, لا يتهاون في اشهار خطابه, حتى لو كان وجدانيا. وليس لنا سوى اثاره الفنية شهودا سوف تبقى شاخصة حتى بعد زوال مبرراتها الآنية. بما تحمله من مقدرة فنية لا توارب عن الإفصاح عن مرجعياتها الإنسانية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram