في آب 1914، زمن كتابة كافكا لقطعته الأدبية "مذكرات عن سكة حديد كالدا"، والتي فيها إشارات إلى وضعه المحزن، حتى أنه كتب فيها "لم أكن ذات مرة مهجوراً، كما ذكرت في العمود السابق، كانت حياة كافكا تمر بظروف مشابهة، إن لم تكن متقاطعة. خطوبته مع "فيلسيا باور"، كانت انتهت قبل فترة قصيرة، أهله الذين يعيشون إلى جوار "كنيسة روسية"، في مركز المدينة القديمة، طلبوا منه أن ينفصل عنهم، ليعيش في "زقاق جانبي". وكما يستطرد الباحث، كان عمر كافكا آنذاك 31 عاماً، عندما عرف أن عليه الاعتماد على نفسه تماماً: أنه مثله، مثل حارس المحطة في قصته "مذكرات سكة حديد كالدا"، كان عليه أن يقود "حياة عزوبية جنونية". اضافة إلى ذلك، تبرز في القصة، وبالكثير من التفصيل، ملامح شخصية الوحش، موظف المحطة الصغير "هيرمان كافكا" (أبوه)، سواء من الناحية الفيزيائية أم من ناحية العادات. بعد عمليه الأدبيين السابقين: "الحكم"، و"المسخ" (الاثنان كُتبا في عام 1912)، حاول كافكا مرة أخرى من جديد، مواصلة العمل على نص "مذكرات عن سكة حديد كالدا"، باشتغال علاقته الإشكالية مع والده. أنه صوت الأب أيضاً، عندما يبدأ مفتش البوليس بالغناء: "كان يغني دائماً أغنيتين فقط، واحدة منها حزينة وتبدأ: إلى أين تذهب أيها الطفل الصغير في الغابة؟ الثانية كانت مرحة وكانت تبدأ بالشكل التالي، هكذا: "أيتها الحيوات الفرحة، أنا أنتمي إليكم!".
هيرمان كافكا، والد كافكا، كما صرحت للباحث راينارد بابس، حفيدته، ماريانا شتاينر، كان يحب الغناء. ولأغانيه المفضلة تنتمي تلك الأغنية الملحنة على إيقاع الفالس، المشهورة "فالس الطبيعة"، من أوبرا الموسيقار النمساوي شتراوس، "الحرب المرحة". اضافة لذكر الأغاني، فإن كافكا يتحدث عن والده وكيف أنه كان يرسله مرات عديدة إلى الزبائن، عندما كان له من العمر سبع سنوات، في جنوب إقليم بوهيميا، لكي يبيع اللحم والسجق عليهم، وكان يشجعه على ترديد تلك الأغنيتين. لم يخف الأب أيضاً حنينه لحياته العسكرية، إذ غالباً ما كان يهمس في آذان أقاربه عن زمنه السعيد "آنذاك"، عندما كان في الجيش.
وإذا كان من غير الممكن التعرف على هيرمان كافكا في الإشارات الطريفة، فأنه يجعلنا نكتشفه، كما يشير الناقد الأدبي راينارد بابس، عبر إشارات أخرى خافية. العلاقة بين كافكا وأبيه منذ ما يُسمى بـ "تجربة البالكون" كانت متضررة على طول الخط. والمقصود بذلك، ما فعل به أبوه في إحدى الليالي، وهو صغير، عندما أخرجه من الفراش، وحبسه في قفص صغير على البالكون، بسبب اعتياده في ذلك الوقت "طلب الماء كل ليلة".
هذه التجربة المرعبة، "المرعبة بشكل غير عادي"، كما وصفها كافكا نفسه، لم يستطع صاحب "المسخ" و"القصر" نسيانها أو تجاوزها أبداً. لقد ظل بعد تلك الحادثة، ولسنوات طويلة يعانى "تحت التصور المعذب، بأن الرجل الضخم، أبي"، سيبعده بالقبضة القوية ذاتها عن الفراش و "بأنني بالنسبة إليه، هكذا ببساطة، لا شيء" ("رسالة إلى الأب" في العام 1919).
رغم أن صراع الأب والابن في حياة كافكا وعمله الأدبي قديم جداً، وبارز بصورة ملفتة، وقاده إلى تأليف الكتب العديدة، وكتابة الكثير من المقالات، لكن الباحثين لم يبدوا اهتماماً خاصاً بمخطوطة "مذكرات عن سكة حديد كالدا"، وجانبها النفسي التحليلي، كما يؤكد راينارد بابس. وهو لا يفهم أيضاً، لماذا لم يبحث أحد عنهما، أثناء البحث عن "مخطوطات كافكا المكتبية" (صدر الكتاب في عام 1984 بتحرير السيد كلاوس هيرمسدورف)، التي كتبها كافكا، الذي كان آنذاك يحمل لقب الدكتوراه والقانوني، الموظف في "شركة تأمين حوادث العمال". للأسف بالذات اثنان من تلك المواضيع فُتش عنهما عبثاً حتى اليوم في "مخطوطات كافكا المكتبية".
يتبع
عندما يسجن هيرمان كافكا ابنه في قفص
[post-views]
نشر في: 16 يوليو, 2013: 10:01 م