لاول مرة يتحدث شباب في البصرة عن النفط، خلال تظاهرات حول الكهرباء. وبغض النظر عن حجم الاحتجاج ونوعه، فهو يصمم رسالة سياسية يحسن بالجالسين في مكاتب الحكومة ببغداد ان يأخذوها على محمل الجد. خلاصة هذه الرسالة ان الشعوب لا تبقى "تحت الوصاية" الى الابد. وأن وسائل الضغط لا تحصى، وأن مسايرة الفشل غير مرشحة للدوام.
اتأمل الصور التي عرضتها وسائل الاعلام للحاج شيّال الرجل السبعيني في الناصرية، وهو يطرح سؤالا غاية في اليسر: اين الكهرباء؟ ثم اتأمل سريان روح مشابهة في الصور التي عرضت من ليل البصرة، لشباب يظهرون بالموضة الحديثة ويتواصلون عبر الفيسبوك، ولديهم ما يكفي من الجرأة لوضع تصور سياسي داخل احتجاجهم، حول معنى تدفق النفط، وإمكانية ان ينقلوا مظاهراتهم قرب المضخات التي تلتهم البترول الاسود، وتصنع به مشهدا اسود لهدر المصائر وضياع الاعمار.
اهل البصرة لم يتحدثوا عن "امتلاك" البترول الهائل الراقد تحت شجرة آدم، او تحت رمال غرب الزبير كما شعراء النبط وبني تميم الذين كانوا يدفنون على ارض مرتفعة حوالي جبل سنام. لكنهم خلال الاحتجاج على الكهرباء يحاولون بلورة "مشروعية جديدة" لم يفهمها الجالسون في "المعازل البيروقراطية" بعد. ان الحاكم يصدر النفط بأمل ان يحوله الى خير عميم، اما ونحن ندخل العام الحادي عشر من دون صدام حسين، ومع كثير جدا من فلوس النفط، وعقود بالمليارات حظي بها دون شك المقربون من السلطان، فإن الجمهور يمكن ان ينتقل الى مرحلة ابعد من مجرد التساؤل حول جدوى التصدير، ويفكر باستخدام هذه الورقة لوضع الحكومة على شفا اقسى الاختبارات.
ما يحدث من احتجاج، في المنطقة الغربية، ورغم كل الملاحظات التي سجلناها جميعا على اخطاء قاتلة رافقته، وما صنعه السبعيني في الناصرية، وما يقوله شباب فيسبوك البصرة الذين حملوا لافتة تقول "تمرد" وتحدثوا عن النفط.. معناه ان البلاد تسير نحو نقطة ابعد مما حصل في تظاهرات شباط ٢٠١١.
وقد كانت حركة شباط كما اسميتها في ذكراها الثانية، عملية "تعرية" للسلطان، واستدراج لضباطه الى ساحة التحرير، ورطتهم وجعلتهم يدوسون قصائد الشعراء تحت نصب جواد سليم. كانت مناسبة لكسر هيبة المال والقوة التي اشعرت الجالسين على الكراسي بأنهم امتلكوا رقابنا الى الابد. وشباب شباط انجزوا مهمتهم كنخبة مدنية قد تبدو محدودة العدد لكنها بالغة التأثير. وقاموا بتسليم السلطان عاريا مكشوفة اخفاقاته، الى معارضيه في البرلمان، ومنح الجرأة للجمهور لكي يقول كلمة مدوية.
البلاد سائرة الى فعل جماهيري اكبر، لا لمجرد تزايد الوعي وتفتح الابصار على معادلات مختلفة تصوغ منطقتنا، بل لان السلطان وفريقه يمتلكون مواهب فشل لا تجارى، وإصرارا متعنتا على التمسك بالطرق المسدودة.
والاكثر طرافة في الموضوع، ان شيخا شهيرا من فريق السلطان، كان مزهوا بالاخفاق ومنهمكا في تبريره، اطلق شتيمة رهيبة لشباب البصرة حين قال قبل بضع ليال ان الصلاحيات الممنوحة للمحافظات وفق التعديل الذي اصاب المالكي بالجنون، "لا يمكن تطبيقها. لان المحافظات بلا خبرات كافية ولا كفاءات"، وضرب مثالا بالبصرة لا غيرها. وهي التي تمتلك الخبرات العراقية الاكثر كفاءة في مجالات الشحن البحري الواعد، وصناعة النفط وغيرها، كما تمتلك واحدا من اكبر الاسواق التاريخية في البلاد. وكأن دولة القانون وخبراتها وكفاءاتها، انجزت للبلاد والعباد ما يعجز اهل نينوى والبصرة وبابل عن انجازه. وأن هذا يبرر ان تبقى السلطة متمركزة في يد حلقة ضيقة تعبث بالعقود المليارية وتصوغ الوعود الخائبة.
ان تجاهل اصوات الاحتجاج بعد اعوام الفشل، هو الخيار الوحيد امام فريق سياسي جرت معاقبته بقسوة في الاقتراع الاخير لمجالس المحافظات. لانه عاجز عن القيام بمراجعة مفيدة، وعاجز عن محاسبة اي مسؤول، ولن يجرؤ على فتح ملف الكهرباء لانه بحوزة دولة القانون منذ سنوات، كما كل الملفات الستراتيجية الكبرى التي احتكرتها تلك الحلقة الضيقة.
انها رسالة سياسية هائلة لخصوم دولة القانون ايضا، فالحاكم المقبل سيكون امام تحديات مختلفة، وسيواجه وعيا مغايرا لدى الجمهور، وشحنة غضب اكبر. والذي يفلح هو من يحسن قراءة هذا مبكرا، وأول ما يحسن به تخيله هو مشهد آلاف الشباب المعترضين على الفشل، وهم يطوقون مضخات البترول ويحاصرون تصديره، لان العيش مع حاكم فاشل لن يستمر الى الابد.
مضخات النفط وتهديد شباب البصرة
[post-views]
نشر في: 16 يوليو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
aymen
لعل ما يميّز هذه التظاهرات وما نعوّل عليه هو الطابع المدني المتحضر لشبابها، متّكئين على وعيهم وأفق خيالهم لحياة أفضل. متجاوزين عقد الأفكار الرجعية البالية نحو حلم الإنسان السعيد والمرفّه. ما يستحق الذكرى قبل هذاالحدث هو الثورة الطلابية التي حدثت في جامعة