قبل ولادة بواكير القوانين والشرائع، التي تنظم العلاقات والمعاملات والحقوق، بين أفراد المجتمع والدولة الناظمة لهذا كله، كانت شريعة الغاب هي التي تتحكم في ما كان يسمى بالتجمعات البدائية، أو التكوينات شبه الاجتماعية وشبه المنظمة. لكن التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ارتقى بمنظومة الضوابط المناسبة لهذا، بصيغة قوانين وأنظمة وقواعد وعهود، وما يقبل القياس على ما سبق من فعلٍ وتجارب وأعراف. وقد انتهى هذا التطور الى ما اصبح متداولاً في النظم الديمقراطية الدستورية، من الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، مع تمييز القضاء بمكانة خاصة في المنظومات الثلاث بالتأكيد على استقلاليته واعتماد قواعد تنظم كل ما يتعلق ببنيته الداخلية، من داخل سلطته هو لا غيرها، لكي تصون هذه الاستقلالية وتكون بمنأى عن أي تدخلٍ أو تأثير أو تجاوز.
ولغرض تأمين شروطٍ مضاعفة لحماية القاضي والسلطة القضائية، التزمت الدول الديمقراطية العميقة بتأييد أعضاء المحكمة العليا، وتعذر اقصاء أعضائها أو الإضافة إليها، إلا في حالة الوفاة. وهو ما تأخذ به الولايات المتحدة ودول أخرى.
فالقضاء والقاضي، أياً كان مستواهما ومجالات فعلهما، من شأنهما إشاعة مناخ الأمان والحصانة للمجتمع والأفراد ومعافاتهما، أو نشر الفساد والتفكك في أوساطهما وتحلل الالتزامات المتبادلة بين المجتمع والدولة وأركانها، وضياع حقوق الأفراد والمجتمع، والانزلاق نحو صيغ الاستبداد في الحكم، وفرط العقد الاجتماعي والسياسي، المنصوص عليه في الدستور.
ولم تتحول الكيانات الاجتماعية البدائية الى "دولة"، قبل تبلور المفاهيم القانونية التشريعية لها، في إطار الالتزامات المتبادلة، وكاساس تنظيم الحقوق والمعاملات في المجتمع وأفراده.
ان التطور التاريخي للقضاء ودوره ومضامينه الاشتراعية ومكانته بين السلطات، ارتبط بنمو قيم العدالة، بالتوازي مع تطور المجتمعات الديمقراطية، وفي الجوهر منها تكريس مفاهيم حقوق الإنسان في إطار دولة القانون والمؤسسات والحريات. ولم تكتسب هذه السيرورة شرعيتها، إلا ارتباطاً بتكامل مفهوم "الحيادية النسبية" للدولة ووظيفتها، واستقرار وحداتها، التي لا تتأثر بالتغيرات التي تقود إليها عمليات تداول السلطة وأدواتها الديمقراطية. وتنطبق هذه القاعدة بشكل مطلق على السلطة القضائية، وأجهزتها ومسارات وظائفها وقواعد عملها.
ومن المحال الحديث عن الديمقراطية والعدالة والقانون، دون توفر اركان السلطة القضائية وفقاً للسياقات المذكورة. ومن باب الادعاء المحض، الركون الى وعود استكمال بناء دولة متكاملة الأركان، ان هي لم تصبح دولة بعد كما هو حال "لا دولتنا"، في غياب سلطة قضائية مستقلة متراصة البنيان، مكفولة الحماية من التجاوز، مُبَرأة من الصراع أياً كان طابعه، خارج آليات القضاء نفسه والقواعد والمفاهيم المتحكمة في وظائفه.
وللتأكيد على مكانة القضاء وسلطته ودوره في حماية المجتمع وأفراده والأوطان وحياضها، يقوم السياسيون ورجالات الدولة والقانون، باسترجاع مقولة تشرشل حين جوبه بما أصاب بريطانيا من دمار وخراب، فسأل: وكيف حال القضاء عندنا؟ قيل له، انه سليم. فأطلق مقولته الشهيرة: بريطانيا بخير..
وللحديث صلة.
من اين نبدأ: التلازم التاريخي بين استقلال القضاء وتكامل الدولة الديمقراطية
[post-views]
نشر في: 17 يوليو, 2013: 10:01 م