ينتابنا حُزنٌ عميق، ونحن نسمع عن غزوة عشائريّة إسلامويّة مزدوجة، ضد بعض المقاهي الشعبيّة، وهي من مميزات بغداد، التي لاتستطيع العيش إلا حُرّة، والمدهش أنّ الغزوة غير المسبوقة في تاريخ العشائر العراقية، تزامنت مع شهر الخير والتسامح والمحبة، الذي تحوّل على يد الغزاة، إلى مجرّد شهر للتسلط والغلظة والحقد، على كلّ ما هو جميلٌ ونبيل، بينما نحنُ على ثقة، بأنّ من قاموا بهذا الفعل الشنيع، لايعرفون من رمضان، أكثر من موائد الإفطار الشهيّة، التي يلتهمونها بنهم، يذهب عنهم بعيداً، حسنة الجوع وبركة الصيام.
لم يكن ممكناً التفكير، بأنّ إغلاق مقهى، يُحتسب عند الله على أنّه تغييرٌ للمنكر، ولا اعتبار المقاهي عند المتعصبين، مخالفة للدين والأخلاق والأعراف، وأن مسألة إغلاقها باتت شعبية وقانونية، تستحق الفضح بسبب لاأخلاقيتها، لولا سيادة الإسلام السياسي فكراً وممارسةً، في عراق مابعد صدام، الذي كنا نأمل أن تسوده الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان، ومن أبسطها، حقه في تناول استكان شاي بالهيل مع أصدقائه، في مكان مكشوف للعامة، وبما يعيد للذاكرة، كما يقول الأستاذ جمال جصاني، فتنة الحنابلة في بغداد قبل حوالي ألف عام، حين قويت شوكتهم، فاعترضوا حتّى في البيع والشراء، من جملة كل القضايا المتعلقة بحرية الفرد، فأرهبوا بغداد.
كان المُنتظر من الزاعمين تمثيلهم للعشائر، بدل التنطع لمنع أماكن اللهو البريء، التظاهر ضد الفساد الذي ينخر البلد، والظلم المُحيق بالعباد، وضد انقطاع الكهرباء والماء وتضاؤل مفردات الحصة التموينية، لا أن "يتمرجلوا" على شباب مسالمين، يرغبون في العيش بحرية في مدينة يعشقونها، وليس لهم سواها، وكان المُنتظر من الحكومة، لو كانت تؤمن بحرية الناس، أن تنبري للدفاع عن حقوق هؤلاء، في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، بدل تحويل عاصمة الرشيد إلى قندهار، تحتفي بالعبي السوداء واللحى، وهنا نسأل عن دور الدولة، إن كانت العشائر تمتلك حق التصرف خارج إطار القانون.
على فرض تسليمنا بأن الغزاة يستندون كما قالوا إلى 1500 توقيع، لأناس يرفضون المقاهي في منطقتهم، ولا يدور الحديث هنا عن الخمّارات والملاهي الليلية، فهل منطقيٌ أن يفرض هؤلاء تخلّفهم، على ربع مليون مواطن، يقطنون الكرادة التي يصفها أحد أبنائها، بأنها مدنيّة متحضرة جميلة وأنيقة وبريئة من المتخلفين، لكن المؤكد أن النتيجة الحتميّة والمنطقيّة، لسيطرة أحزاب الإسلام السياسي، على دار السلام، هو تحويلها إلى مدينة نائمة لا تنهض إلا وقت الصلاة، وبتشجيع من حكومة المُحاصصة، التي ستبرر ذلك بالخوف على الناس من الإرهابيين، وكأنّ المقاهي المكشوفة، أوكارٌ لإعداد القنابل الناسفة والمُفخخات.
يرى البعض، وربما كانوا على حق، أنّ دوافع اقتصادية تقف وراء هذا التحرك، إذ بعدما فرضت سيطرة رجال الدين على منطقة الجادرية، بادروا لمحاولة فرض نفوذهم على الكرادة الشرقية والمسبح وعرصات الهندية، وهي مناطق راقيةٌ جداً، تصلح لاستثمار أموالهم "الحلال" فيها، لتحويلها إلى جزيرة إسلامية، محظورة على الفقراء، لا يدخلها الاّ جماعتهم، لممارسة حريتهم فيها، بعيداً عن عيون المواطنين، الرازحين في الفقر والحاجة، في بلد هو من الأكثر ثراءً بين بلدان العالم.
ستظل بغداد مدينةً منذورةً للفرح والحياة، ولو كره المتأسلمون.
بغداد بين الفرح والمتأسلمين
[post-views]
نشر في: 20 يوليو, 2013: 10:01 م