غالبية الأحزاب الدينية في العراق تحلم بأن تستيقظ غدا، لتجد أن العلمانيين ومن جاورهم قد تبخروا من الوجود، وأصبحوا نسيا منسيا.
في كل يوم تزيد حماستهم في النيل من القوى المدنية، إلى درجة أن أحدهم خرج علينا يوما ليقول بالحرف الواحد لقد سحقنا التيار العلماني وسيظل تابعا للتيار الديني إلى أمد بعيد" وكان صاحب هذه المقولة يشغل أعلى منصب في السلطة التشريعية وأعني به رئيس مجلس النواب السابق محمود المشهداني الذي استيقظ ذات يوم ليعلن إقامة ولايته "القندهارية".
وظل قياديون ومسؤولون يسخرون من مصطلحات، مثل دولة المواطنة، والقوى المدنية، والحريات، باعتبارها تمثل فكرا انهزاميا، ولا تزال كلمات رئيس الوزراء نوري المالكي التي قال فيها إن حزبه استطاع أن يدحر الملحدين والعلمانيين وسنهزم الحداثويين وينتصر عليهم، ماثلة في الذاكرة.
صار الحديث عن " العلمانية " نغمة يستخدمها البعض ليثبت انه يفهم في السياسة، فتجدهم وهم يشاركون في دراما السلطة ومنافعها يصوبون مدافعهم باتجاه الحياة المدنية في العراق. وكانت آخر قذائف هذه المدفعية تلك التي اطلقها قبل أيام احد المنتمين لأحزاب الإسلام السياسي في العراق وهو ينتقد مظاهر فنية في بعض مدن العراق معتبرا بعض الفعاليات الفنية التي قدمت في بغداد لا تنتمي إلى تراث العراق والى تقاليد شعبه، فالرجل يعتقد ان التراث العراقي ينحصر فقط في السنوات العشر الأخيرة التي سيطرت فيها أحزاب الإسلام السياسي – سنة وشيعة – على مقاليد الحكم في البلاد.
للأسف يدخلنا بعض الساسة كل يوم في أتون حرب جديدة المفاجأة فيها، أن العدو لم يكن تنظيم القاعدة، وإنما " العلمانيون الذين يتجرّأون بإقامة فعاليات ثقافية وفنية.
يكتب نصر حامد أبو زيد في نقده للخطاب الديني السائد، عن الخلط الستراتيجي المتعمد في المفاهيم، حيث يحاول المحافظون والإسلامويون تضليل البسطاء بان العلمانية تعني فصل العقيدة عن الحياة والمجتمع، وبذلك يصورون للرأي العام المتأثر بالخطاب الديني السائد ان العلمانية، مطابقة للإلحاد، ويطرح أبو زيد مفهوما للعلمانية ليس ضد الدين، وإنما ضد هيمنة الدين على كل المجالات، والمقصود هنا بالتحديد تقليص السلطة السياسية لرجال الدين. فنحن لا نطالب بعلمنة قانون الدولة ولا نريد إبعاد الدين عن الحياة العامة، ولكننا نريد تحرير الخطاب الديني من قبضة المؤسسات والأيديولوجيات السياسية، وبذلك يؤسس لخطاب حر بعيد عن الاستغلال.
وللمفكر الراحل علي الوردي مفهوم مماثل للعلمانية يعرّي رأي بعض الإسلامويين في التعارض بين القانون الإلهي والقانون الوضعي كظاهرة أيديولوجية بديلة. فالذين يدّعون الحق الإلهي لأنفسهم ولمواقفهم سيظلون بشرا معرّضين للخطأ، بيد أنهم لا يجهرون بعدم عصمتهم عن الخطأ ولا يخضعون برامجهم السياسية للنقد الديمقراطي، وفي ذلك يرى الوردي أن النظام العلماني يمنع تأليه الحاكم أو جعله كائنا معصوما من الخطأ.
تحيلني خطب وشعارات بعض ساستنا إلى نموذج ظهر في مصر في الأشهر الأخيرة وهو محمد مرسي الرئيس الإخواني، فالرجل الذي كانت أفعاله وتصريحاته الغريبة تملأ الصفحات الأولى من الصحف لم يكن ذا معرفة بالسياسة، فكان أن تصرف بأكبر من حجمه حين تصور أنه الحاكم بأمر البلاد والعباد، فأدت تصرفاته إلى انهيار النظام "الإخواني"، بل إن عددا من القرارات التي صادرت الحريات في مصر التي سعى مرسي إلى إصدارها هي التي عجلت بانتفاضة الغضب وأخرجت الشباب إلى الساحات، والغريب أن مرسي لم يكن معروفا قبل عشر سنوات في مصر، مثلما لم يكن السادة مسؤولو مجالس المحافظات معروفين قبل سنوات في الحياة السياسية العراقية.
اليوم نسمع خطباً لسياسيين ومسؤولين وكأننا نستمع لخطب "القائد الملهم" مارشات عسكرية تهيئ الناس لحرب ضد الرذيلة وانعدام الأخلاق، وكأن بغداد تحولت إلى ملهى وماخور ليلي كبير، فقررت العناية الإلهية أن ترسل لنا دعاة الفضيلة وحماة الأخلاق ليملأوا الأرض عدلا وفضيلة بعد أن ملأناها نحن الخطاة جوراً وبهتانا.
من الآن فصاعدا ينبغي على أي حكومة أو سلطة في العراق، أن تكون قلقة طوال الوقت، والسبب أن هناك متغيرا خطيرا طال الحياة السياسية العربية خلاصته أن الشعب يمكن أن يخرج إلى الشارع ويسقط هذا الحاكم أو تلك الحكومة فالمواطنون العاديون لا تشغلهم البيانات الحكومية، ولا يشغلهم أن يلبس المسؤول بدلة " عمل ".. لا يشغلهم هل الشهرستاني قال إن إنتاجنا النفطي 4 ملايين أو 3 ملايين برميل، هؤلاء يريدون حدا أدنى من الحياة الكريمة، وظيفة ومسكنا ومأكلا وأملا في الغد.
أقرأ بتعجب ما يصرح به العديد من ساستنا وأنظر إلى وجوه البعض منهم فأجدها باهتة تفتقد الرؤية والقدرة على إلهام مجتمعهم، ساسة نشعر بالحسرة كل يوم على وجودهم بيننا، ونرفع أيدينا إلى الله داعين: اللهم ارزقنا سياسيين لا نختلف معهم على درجة تقواهم وإيمانهم، بل على درجة تمسكهم بخدمة الناس واحترام القانون وحماية أموال الشعب!
العلمانيون ومدافع الأحزاب الدينية
[post-views]
نشر في: 20 يوليو, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
علي عبد علي
ان من يعتقد بامكان بناء دولة ديمقراطية دون الفصل التام للدين عن الدولة انما يغالط نفسه ليس الا. و اي محاولة للالتفاف على ذلك ما هو الا نفاقا سياسيا دوافعه تبقى غير نزيهة على اقل تقدير.