ليس لنا أن نقرر نقطة البداية في إعادة رسم حظوظنا ضمن مستقبل واعد يليق بالبشر، والمشهد المعقد الذي صارت إليه دولتنا اللا دولة، فالفاشلة بامتياز على "عِلّاتها"، حيث من الصعب الاختيار بين متاهاته التي تُشبه لعبة maze التي يضيع فيها النابهون.
وإذا افترضنا إمكانية عودة القادة والكتل السياسية المهيمنة، الى "جادة الرحمن" والتخلي عن شراهتهم في مواصلة النهب والتخريب والمداهنة والتسويف في الوعود المنافقة، فبأي وسيلة نستطيع فك الاشتباك بينهم وهم يتصارعون على من سيكون الأولى به ان يبادر للهداية! ولكل من أطراف الصراع، حساباته وتجاربه وملفاته، عن رصيد الغدر الذي يتميز به غرماؤه ومنافسوه في العملية السياسية، وفي الدعوة لإتقاء عقاب الله.
ولنتذكر كم من القضايا الكبرى التي واجهتنا بعد الاحتلال، وتطلبت قراراً سيادياً، كما كان يقتضي. وعلى سبيل المثال الاتفاقية الأمنية وإطار التعاون مع الولايات المتحدة، وكيف جرى التحايل على الجمهور من قبل رئيس مجلس الوزراء وقادة الكتل المعارضة، بادعاء المعارضة لإمرارها، دون ان يُدرك خلق الله من العراقيين، بان الحوار الذي كان يدور خلف الكواليس بينهم جميعا، كان يطالب بان يتنادى "الجميع" في وقت واحد لإعلان القبول بالاتفاقية والمصادقة عليها في البرلمان، لكي لا يستفيد أي طرف، سواء في التحالف الوطني أو خارجه من المعارضين، من كسب التعاطف على حساب دولة القانون ورئيس مجلس الوزراء، المعني المباشر بالموقف.
وما لا يعرفه الجمهور أيضا، ان الكل، وربما باستثناء طرف في التحالف الوطني، كان "موافقا" ومُشيداً بالاتفاقية ويعتبرها منجزاً وطنياً، وضمانة لحماية العراق ومسيرته الديمقراطية!
وإذا عُدنا الى ملفات الفساد، على سبيل المثال أيضاً، فهل هناك قوة أو زعامة، لم تلوّح بكثرة من تلك الملفات من شأن كشف مساتيرها، إنهاء آخرين، ومعافاة أوضاعنا المزرية بعد التخلص من الفاسدين؟ وكم من هذه الملفات كُشف النقاب عنها، ومن تساءل في دولة القانون المتآلفة، والتحالف الوطني، عن الأسباب التي تحول دون تشخيص المدان وعزله، حتى لو كان الامر محاطا بـ"وافر الاحترام"، ودون الإعلان أو الملاحقة القانونية لشخصه، بحيث يمكن ضمان حقوقه التقاعدية، والاحتفاظ حتى بجوازه الدبلوماسي؟
وإن كان الحال بالنسبة لمواقف سياسية لا تحرم من امتياز أو تحد من نفوذ، فكيف سيكون الامر حين يتعلق بالسلطة والجاه والنفوذ، من هو المستعد من الطغمة الحاكمة، للمبادرة بالتخلي عن موقعٍ أو امتيازٍ أو نفوذ، خصوصاً إذا كان ذلك كله مصدر اكتنازٍ للمزيد من المال المنهوب والامتيازات التي باتت تفوق ما لم يكن يراود أحداً منهم، حتى في احلام يقظته..!
ويتنامى التذمر الصامت والغضب المكبوت كل يوم، بين أوساط وشرائح تتنوع منابتها الطبقية وتتسع دائرتها، لكن فسحة الأمل هي الاخرى تتقلص، والمساحة المضيئة بين المرتجى والمؤجل تضيق وتكاد تنغلق، لفرط ما تراكمت شراهة لصوص المال العام، ولكثرة ما تعززت سلطتهم الجائرة، حتى غطت كل المنافذ التي يمكن ان تتسلل منها بارقة خلاص. فلا أمل في شفاعة قضاء، بعد ان تراكم على سوحها غبار السلطة، وامتدت إلى مراكزها أيادي المتنفذين فيها، فتحولت بعضها بذلك الى معابر للفساد وغطاء للجور والسكوت عن الباطل، وتلويث الدستور بالتفسيرات التي تبرر للسلطان وحاشيته والمحيطين به، الكبائر وإلغاء الإرادة العامة وتدجينها.
وإذ يتعذر علينا تحديد البداية لانتشال حالنا مما هو عليه من جور وفتنة وزلفى وسقوط في مراتع الحرام، فلا أقل من ان نتعود على الكلام فيما يقتضي الاحتجاج، والبوح في الهواء الطلق، وكشف المستور، بعد ان اصبحت عاقبة الصمت والسكوت، الانزلاق الى منحدر لا قاع له من الفاقة المادية والروحية، وامعاناً في التجاسر والعدوان على الحقوق والحريات.
من أين نبدأ، والدستور معطلٌ بلا حرمة، وقد أنام أمراء الطوائف قرارهم بإجراء التعديلات عليه، في طيّات أهل الكهف، مع أن القرار كان يحدد توقيتاً للتعديل اصبح بحكم "المنعدم" لمرور سنواتٍ عليه؟!
من أين نبدأ، والوزارات الأمنية ظلت بلا وزراء، تحت وصاية مباشرة من الحاكم بأمره، مع أن التشكيلة الوزارية الناقصة، تصبح بحكم "المنعدمة" لان التكليف الرئاسي بتشكيلها سمح بالشغور لبضعة أيام أو أسابيع، تجنباً لاستمرار الأزمة التي تسبب بها استعصاء إمرار ولاية ثانية لرئيس الحكومة؟
من أين نبدأ، وقادة الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وقواد فرق الجيش، ظلوا "بالوكالة" لرفض مجلس النواب قبول تعيينهم، لشبهة شمولهم بالاجتثاث، وهو ما يجعل استمرارهم في مواقعهم، بحكم المنعدم، لان "الوكالة" لا تجوز إلا لبضعة اشهر؟
من اين نبدأ، والدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها ومفاصلها الحيوية، تُدار من وكلاء وزراء ومستشارين ومدراء عامين ودرجات خاصة "بالوكالة"، لان البرلمان لم يصادق على تعيينهم، وهم بذلك بحكم "المنعدم"؟!
من اين نبدأ، ورئيس ديوان رئيس مجلس الوزراء ومدير مكتبه، ومستشاروه، يتابعون عملهم، دون ان يصادق مجلس النواب على تعيينهم، مما يجعلهم بحكم "المنعدم"؟!
من اين نبدأ، وأعضاء ورؤساء الهيئات المستقلة، معينون من رئيس مجلس الوزراء، بصفة "وكالة" يرتبطون بمكتبه، والموظفون فيه، هم بصفة وكالة، مما يعني أنهم بحكم "المنعدم"؟!
من اين نبدأ، والقوانين التي تحكم بمقتضاها المحاكم والقضاة، وقانون العقوبات، في صدارتها، لا تزال سارية المفعول مع انها بتعديلاتها، صادرة من "مجلس قيادة الثورة" البعثي، مما يجعل الأحكام الصادرة من المحاكم والقضاة باطلة، لان الاجتثاث يُفترض ان يشمل المجلس المذكور وما صدر عنه، خصوصاً وان في القوانين السارية ما يتعارض مع روح دستور العراق الجديد ومبادئه ومبناه، وهذا معناه ان القوانين المذكورة وأحكامها بحكم "المنعدم"؟!
من اين نبدأ، ومجلس الوزراء، يدار بلا نظام داخلي يحدد قواعد عمله، مع ان هذا النظام متلازم مع تشكيل الحكومة، وان ديباجته وضعت، وافتُرض الانتهاء من صياغته النهائية بالتزامن مع بدء ولاية الحكومة، مما يجعل من قرارات المجلس، بحكم "المنعدم"؟
من أين نبدأ، والدستور ينص على أن مجلس الوزراء، هو صاحب الصلاحيات التنفيذية الكاملة، ورئيسها، ليس سوى منفذٍ لقراراتها، مع أن إرادة المجلس في حكم "المنعدمة"، لان رئيس مجلس الوزراء يتطاول على جميع صلاحيات المجلس، ويعتبر نفسه صاحب الصلاحيات الدستورية!
من اين نبدأ، والدولة تُساق، بلا مؤسسات دستورية، ولا قوانين منبثقة من دستور النظام الجديد، ولا موظفين تتمثل فيهم الشروط والمواصفات المطلوبة، ومطعون بشرعية مسؤولياتهم، والسلطات الثلاث، تتربع في "أوانٍ مستطرقة" لا استقلالية للواحدة منها عن الأخرى، وتغوص في أوحال المحاصصة الطائفية وأدرانها، مما يجعلها، لفرط التداخل فيما بينها، بحكم "المنعدم" لان القاعدة أن تكون مستقلة، الواحدة عن الأخرى..!
من اين نبدأ، والشواهد الحكومية وأرقامها، تسجل تبديد أكثر من مئة مليار دولار من خزينة البلاد، بين نهب ورشى وفسادٍ إداري ومالي، وتهريب وعمولاتٍ، وصفقات مشبوهة، وتظل القضايا تسجل على مجهول، والحكومة، تلتزم الصمت، والبرلمان يكتفي بالضجيج، مما يجعل ثروتنا الناضبة، بحكم " المنعدم " ولو بعد حين.
من اين نبدأ، والفوضى الأمنية والإرهاب، والقتل على الهوية، وصولات المليشيات شبه الحكومية، من دعاة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، تطاردنا اشباحها تحت بصر الحكومة وعلمها ومؤازرتها، ليل نهار، حتى تصبح المقاهي "التي ليس فيها كحول" هدفاً لعدوانيتها واستفزازاتها وتخريبها، مما يجعل أحوالنا وحياتنا كلها في حكم "المنعدم"؟
لم يبق لنا غير البدء من صرخة المستجير، بالاحتجاج.. وليس بالاحتجاج وحده يمكن ان نرسم خارطة طريق خلاصنا، لكن به يمكن ان نعبد الطريق لتصبح سالكة، ولعلها تؤدي في لحظة يقظة وانبعاث، الى استنهاضٍ يكسر شوكة المتجبرين، ويفتح باب الفرج والأمل وتنسدل الستارة على مشاهد الخيبة، ومهما توهم السادرون بغيّهم، فالفرج آتٍ لا ريب فيه، مهما طال الزمن..!
.. والى أين انتهى حالنا..!
[post-views]
نشر في: 21 يوليو, 2013: 10:01 م