لازلت افكر في أهالي قرية "صالح اندراب" او "صالح تحت الماء" التي كتبت عنها امس. والقضية تستحق وقفة مع هذه البلدة الفقيرة المفتقدة للكهرباء والتي تشهد ضجيجا يستنزف طاقتها حول حرمة استخدام ادوات التجميل. اذ من الناحية الثقافية ونوع المشاكل، يبدو ان حدود قرية "صالح تحت الماء" أوسع بكثير من مساحتها الإدارية. وكل الشعوب توشك ان تردد مع نزار وعبد الحليم "اني اغرق اغرق"، ويمكنني ان أتخيل ان كل الحدود الغابرة للإمبراطورية العباسية، تشبه حاليا قريتنا الأفغانية المشغولة بحرمة محلات الماكياج.
ان تلك البلدة الافغانية التي تنسى كل شيء وتنشغل بحرق متاجر أدوات المكياج، تقدم لنا قواعد فهم مهمة لتحليل ظواهر كثيرة. هناك قواعد لعبة تقيد أهالي قرية "صالح تحت الماء". والقواعد توضح لهم ما يحق وما لا يحق. اسم القرية يحمل دلالة ثرية، فسكانها "تحت الماء" والحاكم يقول ان هذا "قضاء وقدر" ويمتنع عن اي توضيح إضافي.
استغاثاتنا وصراخنا لا يسمعها العالم بشكل مناسب، لانها تأتي من مكان بعيد في ذلك القعر المظلم. عقولنا في الغالب، لم تعد تعمل بشكل صحيح وتكيفت مع مستوى الضغط وانعدام الرؤية أسفل القعر. ولذلك فإن مشاكلنا لا يوجد لها تصنيف في قواميس الازمات الدولية. ولذلك ايضا فإن الأمم التي تعيش "فوق الماء" مشغولة عنا بصناعة تسويات لانبعاث غاز الدفيئة وأثره على ثقب الأوزون، وهي تتقاتل على قواعد تدفق السلع وتقاسم الأسواق. وتختلف كثيرا حول المعيار الأخلاقي الذي يجب ان يتوقف (او لا يتوقف) عنده علم الهندسة الوراثية. وبينما تتناقش تلك الأمم، يظهر تقرير عن عراك مميت يرتهن أهالي "امبراطورية صالح تحت الماء" بسبب ماكياج امرأة، ومقهى شبابي، او قبر مقصوف لخالد بن الوليد او حجر بن عدي.. او ذبح سماوي لفرقة تقوم به فرقة أخرى بسبب خلاف لاهوتي على "سر النجاة" الذي طلبه الله.
المتفاوضون بشأن "غازات الدفيئة وثقب الاوزون"، بأي طريقة ينظرون يا ترى، الى طراز حروبنا في امبراطورية غارقة في القعر، لا تخشى الاوزون، ولا تهمها نتائج الهندسة الوراثية، ولا القاعدة الضريبية لتقاسم اسواق الدنيا.
ان سلطاننا وبمنطق القعر العميق المظلم، يحكم أمة "تحت الماء"، بينما نطالبه نحن بشروط حكم وإدارة اقتبسناها من تلك الأمم التي تعيش على اليابسة وتتمتع بشمس الشواطئ، وتمتلك نهارات منتجة ومساءات مضيئة تمتلئ باللمحات الذكية. النخبة تحاول استدراج أمة "في القعر" نحو ذلك الشاطئ المنير. والأمة لا تخفي "ذعرها" من الانتقال الى السطح. لكن الأمة تتذكر احيانا أننا لم نكن على الدوام من سكان القعر، وقد سبق لشعوبنا الغريقة هذه، ان ملأت الشواطئ صخباً وعملاً وشعراً وعمارة وعلوماً. والثورات إنما تحاول اليوم استعادة حق الشعب في العودة الى اليابسة.
وأثناء ذلك ليس غريبا ان نظل ننغمس في جدل، يتجاوز "المستورد من تقاليد الغرب" والخلاف عليه. وستظل "مشيئة الله" أداة يستخدمها الحاكم للتلاعب ب"اللاوعي السياسي" للشعوب.
ترى لماذا يتوجب على السيد نوري المالكي في بلاد "صالح تحت الماء" الواسعة، ان يوضح للشعب أسباب فشله في حماية سجن أبو غريب؟ أليست المشيئة الإلهية هي التي جاءت بهذا البلاء قضاءً وقدراً، او اختباراً لصبرنا على البلاء؟ ولماذا يستجيب لطلب البرلمان لمساءلته بشأن كل إخفاقات الأمن؟
لقد توقفنا للحظة عن مطالبته بتنشيط الجهد الاستخباري وتصميم عمليات مباغتة تكشف الانتحاريين قبل ان ينفجروا وسط أسواقنا. وصرنا نتوسل اليه ان يحافظ فقط، على قادة القاعدة الذين ألقي القبض عليهم بتضحيات هائلة من الأهالي والقوات المسلحة.. وهو يخفق في ذلك، ويعيب علينا مساءلته، لان ما حصل "مشيئة سماوية واختبار لإيماننا وصبرنا على البلاء".
ابتسم يا صالح، فلست الوحيد "تحت الماء". وحتى نخرج الى اليابسة سأظل اسأل بمنطق الغرقى انفسهم: هل هناك بلاء اكبر صبرنا عليه، اكثر من وجود فريق سلطة فوق رؤوسنا، تنقصه الحكمة ويتلذذ بارتكاب الأخطاء الكبيرة؟ أليس الشعب "الصابر" على بلاء كهذا في "امبراطورية صالح تحت الماء"، مرشحا للحصول على غفران استثنائي يوم القيامة، والدخول الى الجنة، حتى لو خالف تعاليم الشريعة، وجلس في مقاهي الكرادة، وتاجر بمكياج النساء؟
السلطان "تحت الماء"
[post-views]
نشر في: 23 يوليو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
علي الخيام
لايزكي النفوس إلاالله ,هذا ياأخي ما جنته ايدينا فاذا كان لابد من يلام فلنلم انفسنا لأننا رضينا بحكم ولاية الفقيه بطريقة غير مباشرة لايراها غير المتنورين الذين ملئوا صفحات الجرائد بأنتظار الجهلاء أن يقرأوها ,اذكر في آخر كلامي ماقاله الشاعر العراقي الكبير ا