TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أوهام المثقف: تونس مثالاً

أوهام المثقف: تونس مثالاً

نشر في: 26 يوليو, 2013: 10:01 م

كتبتُ مرةً أن على المثقف أن يكون مثل شوكة الطعام، ينافح ويستدير إلى الجهات جميعاً في آن واحد. يساجل أحياناً حتى المقربين إليه روحياً وفكرياً وإنسانياً: الليبراليين والعلمانيين. ليس تفكيك بعض مواقف المثقف الليبراليّ ونقدها، دفاعاً عن الإسلاميين دون شك. أرى أن تناقضات قَرِينيْ المثقف الليبراليّ، في اللحظات الحرجة، أعوص أحياناً من مأزق (مثقف الإسلام السياسيّ). فالأخير منسجم مع نفسه، نظرياً في الأقل، بينما لا يبدو القرين كثير الانسجام معها دائماً. في مسألة فوز الإسلاميين في الانتخابات مثلاً يعود بعض الليبراليّين العرب فيغدو مرتاباً من مبدأ الديمقراطية، أو يودّ ديمقراطية على مقاساته. ولقد رأينا ذلك في مصر وتونس، والجزائر قبلهما، بينما مبدأ الديمقراطية لا يتجزأ، وعلى الجميع قبول اللعبة، ورؤية سبب "خسارته" أولاً.
ثقافياً تبرز المشكلة بقوة، بحيث يمكن القول إن بعض خطابات الليبراليين النظرية التاريخية هي أحد أسباب صعود الإسلام السياسيّ. سنتحدث عن مثال تونس. إذ طيلة 12 عاماً من إقامتي فيها، سألت نفسي مراراً: لماذا تستفزّني، أنا العلمانيّ الليبراليّ الواقف طيلة حياته ضد الفكر القومانيّ والإسلام السياسيّ، مواقف وتأويلات الكثير من العلمانيين التونسيين؟. هنا عيّنة يمثلها تصريح الشاعر الصغير أولاد أحمد: "تونس ليست عربية إسلامية. العروبة والإسلام هما التونسيان". هذا الخطاب ليس بُدْعة، بل يعبِّر عن قناعة عند مثقفين كُثر في تونس: هناك فكرة طاغية في بلد فلاحيّ في مجمله، ذي طقوس دينية متسامِحة، مالكيّ المذهب، تَفترِض أن تونس تتفوّق على غيرها بسبب أنها، بالضبط، تمتلك خلفيات حضارية متعدّدة المستويات: بربرية، قرطاجنية، بونيقية، رومانية، .. الخ. الفكر البورقيبيّ وامتداداته الضاربة في لا وعي بعض المثقفين تشدّد على المسألة، ليقول مداوَرة أن الإسلام والثقافة العربية لحظتان قليلتا الأهمية في التاريخ المحليّ (المعزول بدوره بشكل متخيَّل عن تاريخ وجغرافيا بلدان المغرب). عند صعود حزب النهضة صَعَدَ هذا الخطاب بشكل صريح وقويّ واستفزازيّ.
لكن أيّ بلد عربيّ إسلاميّ، لا يمتلك خلفيات متعدّدة المستويات، لعلها أكثر تعقيداً من الخلفيات التونسية؟. سوريا مثلاً: رافدينية، أرامية، رومانية، بيزنطية، عربية، إسلامية، تركية، وشهدت لأكثر من قرنين حروباً صليبية ذات مؤثرات حضارية لم تشهدها تونس في الفترة نفسها. العراق أعقد قليلاً بسبب جميع تلك الخلفيات تلك، يُضاف لها التأثير الفارسيّ والتركي والهندي والصيني وغيرها. أما (إسلامات) العراق وسوريا فمن التنوّع والاختلاف ما نعرفه. لا نسمع في العراق أو في سوريا تشديداً على خصوصيةٍ مفرطة، لعدم وجود إيديولوجية مماثلة لإيديولوجية (الأمة التونسية) البورقيبية. هذا الخطاب يُضْمِر تفوُّقاً متعالياً حتى عليّ أنا الذي أشارك هذا المثقف كفاحه ضد الإسلام السياسيّ. قامت الثورة التونسية، لكن فكرة (الأمة) التونسية المعزولة الفريدة ظلت قائمة بدهاء وخفاء مع نكران ظاهريّ.
هناك عنصران ثقافيان آخران في هذا الوعي المتوَّهم. الأول: الخلط بين (الصورة السياحية) للبلد و(صورته الواقعية). يسعى المثقف الليبرالي لتثبيت الأولى، وهي لا تمتّ إلى الواقع بكبير صلة، بل تنتمي للدعاية المشروعة التي تستهدف جلب الأموال الصعبة. يُقترَح ويُفترّض أن تلك الصورة أرفع من (صورة ابن البلد) الفائز في الانتخابات ومن جميع مظاهر التديّن الحالية. (صورة متخيَّلة)، وفيها الكثير من الرغبات، وتخاطب بالأحرى "المُتحضّر" الذي تودّ أن تكون ونكون معها جزءا منه.
الثاني يتعلق بنزعة (البَرْبَرة) المُفْرِطة التي تصل حد إلغاء العناصر الحضارية المتداخِلة في تكوين المجتمع والثقافة. هنا يُعتبر أن غزو بني هلال ((1050م) (أيّ العرب) سبب تاريخيّ في التخلف. وهذا حديث يحتاج تأنياً وموضوعية، لا يتوفران دائما عند بعض الليبراليين، وليس البتة من أولويات الشعب التونسيّ الكريم.
خطاب له بالطبع أمثلة في العالم العربي، ويشكّل آليةَ دفاعٍ نفسية، ترفض الواقع الآنيّ المرير، قبل أن تكون حقيقة لا تُجادَل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram