TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > برلمانات العرب قبل ٢٥٠٠ عام

برلمانات العرب قبل ٢٥٠٠ عام

نشر في: 28 يوليو, 2013: 10:01 م

لقد شهد العرب نكسة سياسية رهيبة بعد ٣٠٠ عام من ولادة المسيح! وجوهر تلك النكسة، انهم انتقلوا من حكم ملوك الدويلات المقيد بمجلس او برلمان يسمونه "ثمنيتن" او "المسود"، الى حكم الملك المستبد لدى مناذرة العراق وغساسنة الشام، وقد كان السبب هو "الجيش" والنتيجة هي انقسام القوم بين مؤيد لفارس او الحبشة او الروم.
هذه مستخلصات عن جذور "الديمقراطية العربية" وصعودها ثم انتكاسها، من بحث للمؤرخ جواد علي، احد الاعمدة الثلاثة في مدرسة التاريخ العراقية، وقد اهتديت اليه بفضل الشاب المثابر الدكتور نصير الكعبي الذي قام بجمع وتحقيق ابحاث متناثرة لمؤرخنا، نشرت على مدى عقود عبر العالم، وطبعها في جزئين: ابحاث في تاريخ العرب قبل الاسلام وبعده.
وفي بحث عنوانه "الفكر السياسي العربي قبل الاسلام" يتتبع جواد علي المعروف بصبره ودقة ملاحظته، ما سجله المستشرقون والمنقبون في خرائب اليمن الجنوبية وتدمر الشمالية وحوالي العراق والشام، من ترجمة لنقوش قديمة وأوامر الحرب والسلم وقواعد التجارة، ليصف لنا كيف عجز ملوك الدويلات تلك قبل نحو ٢٥٠٠ سنة، عن اخضاع الناس لحكمهم، الا بعد ان توافقوا على تقييد الملك بمجلس يمثل اهل الرأي وقادة القوافل والتجارة وزعماء البيوتات الكبيرة، وقادة الجيش والعلماء.
ففي جنوب جزيرة العرب كان المجلس ملزما للملك ومتكونا من ثمانية اشخاص ولذلك عرف باسم "ثمنيتن" في لغة ثمود وعاد، شقيقة اللغة العربية الحديثة والبابلية القديمة. كما اطلق على المجلس في دويلات عربية اخرى اسم "مسود" اي المكون من الاسياد والاعيان العقلاء. وفي شمال الجزيرة قرب سوريا كانوا يلقبون هذا المجلس الملزم بمفردة "منعن" اي المنيع والرفيع، و"علا شان" اي عالي الشأن. وهناك ملك من "لحيان" كان لا يصدر قراراته الا ملحوقة بوصف "براي" اي انه اتخذ برأي مجلس الشيوخ.
وينقل جواد علي تفسيرات مهمة لظهور هذه المجالس بالتزامن مع نظيراتها في اليونان القديمة، قائلا ان الاقوام كانوا يعيشون في "تعددية جغرافية" بين سهول ووديان وجبال، قرب عيون ونهيرات وآبار، وتصعب السيطرة عليهم، ولذلك فقد اضطر الملوك ان يترجموا التعدد الجغرافي الى لون من تعدد الرأي السياسي، ليضمنوا ان القرارات تمثل رأي هذا التنوع.
وفكرة "التمثيل السياسي" تمتد لالقاب الملوك انفسهم، فقد حرصوا على الظهور كطرف سياسي ارفع ولكن قريب في الوقت نفسه من المجالس التمثيلية. فقوم عاد والثموديون، اطلقوا اسم "العبهل الاقيل" على الملك، اي "العاهل القائل والمتحدث باسم ارادة الشعب".
لكن الممالك الاحدث التي ظهرت بعد ٣ قرون من ولادة المسيح، في دويلات ابناء المنذر بالعراق، وبني غسان في الشام، لا تتضمن اي اشارة لوجود برلمان "ثمنيتن" او "مسود علا شان"، ما يصفه المستشرقون بأنه "انتكاسة للفكر السياسي في الشرق الاوسط" يومذاك.
ان المثير في الامر تشابه الاسباب بيننا وبينهم، على بعد الدهور والازمان، وتتشابه الاقدار حين تتغير توازنات القوى العالمية، فتهجم الجيوش على بلدان المنطقة بظهور الرومان واستقواء امبراطورية فارس، ويؤدي هذا الى اختفاء "البرلمان العربي"، وتلاشي المجلس التمثيلي فلم يعد ملك يستمع لرأيه، حين نشبت الحروب وصار صوت قائد الجيش هو الاعلى وراح الجنرال يتدخل في صناعة السياسات، والذريعة كما هي اليوم "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
ان ما حصل في اليمن ولحيان وتدمر، قبل نحو ١٧٠٠ عام، يشبه تعليق الدستور واعلان حالة الطوارئ. لكن الامر ادى الى نشوب حرب داخلية، ثم انقسم المتحاربون بين من يستعين بجيش فارس، ومن يستند لمعونة ملك الحبشة الموالي لامبراطورية الرومان. فخربت نظم الري وهاجر المبدعون والحرفيون والاطباء اما الى فارس او الحبشة.
وبعد ٢٥ او ٣٠ قرنا على تلك التسويات السياسية التي يسجلها جواد علي، يفشل مجلس "ثمنيتن" العراقي في محاسبة سلطان اليوم، وحتى حين يفشل جنرالاته في المعركة، فإنه يلوذ بصمت الحائر، ويمنع النواب من دخول سجن ابي غريب، متذرعا ب"أسرار الامن الوطني". وكأن اسرارنا ظلت في "الحفظ والصون" بعد فضيحة الفرار الجماعي. وكأن "الظرف الامني الحساس" ذريعة للانقلاب على الهيئة التمثيلية المنتخبة، التي خربها قبل ١٧ قرنا، انقسام الثموديين واللحيانيين، بين الاحباش والفرس. وكأنه "عود ابدي" لمن يريد جرجرتنا الى الانتكاس السياسي ثانية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. نبيل -الاردن

    صدقت يا سرمد الان العرب منقسمون بين مؤيد ومعارض لايران ومؤيد ومعارض لتركيا اخر مهزلة واحتقار الذات انا ضد حكم العسكر ولكن افضله الان كما حدث في مصر لان حكم الاخوان يكرس التخندق خلف الطائفية واؤيد حكم عسكري وطني عاد حتى في ظلمه على حكم الاحزاب الفاسدة ال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram