TOP

جريدة المدى > عام > الشاعر توماس ترانسترومر..الليل ليس مجرد غياب الضوء (2-2)

الشاعر توماس ترانسترومر..الليل ليس مجرد غياب الضوء (2-2)

نشر في: 30 يوليو, 2013: 10:01 م

  بالرغم من أن الحياة حاضرة ومستمرة ، لكنها لم تكن وحيدة بل الموت مجاور لها، وارتضيا ذلك وابتكر كل منهما لمجاله تمظهرات دالة عليه ، وما ظل خاصاً بالحياة في المجاميع الشعرية (اثنتا عشر ديواناً ، منذ ديوانه الأول 17 قصيدة 1954 وحتى ديوانه الأخير

 

بالرغم من أن الحياة حاضرة ومستمرة ، لكنها لم تكن وحيدة بل الموت مجاور لها، وارتضيا ذلك وابتكر كل منهما لمجاله تمظهرات دالة عليه ، وما ظل خاصاً بالحياة في المجاميع الشعرية (اثنتا عشر ديواناً ، منذ ديوانه الأول 17 قصيدة 1954 وحتى ديوانه الأخير ، اللغز الكبير 2004) استمر فيها محافظاً عليه بدقة تامة ولم يخترقه حتى تميزت تجربته الفنية بعناصرها الفنية منذ الديوان الأول وحتى الأخير ، وكأن ترانسترومر خُلق هكذا منذ لحظة كتابته القصيدة الأولى ، التي تبدت عن خصائصه وكأنها البيان الفني الأول . المثير في هذه التجربة الفنية الفذة بقاء الجدل حاضراً ومستمراً بين الأفكار والقيم ، بين الحالات الثقافية / الاجتماعية / الأخلاقية ، وهذه ملاحظة داعمة لملاحظتي عن تكونه الذي ابتدأ وظل هكذا . ويبدو لي بأن التجارب الفنية الكبرى ، تبدأ هكذا منذ عتبتها الأولى ولا يحصل فيها خرق فني أو خاصية بنائية جديدة ، كل ما فيها جاهز وظل على ما هو عليه دون تغير . هذه الخلاصة الإبداعية / الفنية الفريدة معطلة عن التحول والتغير الحاصل دائماً وكثيراً في تجارب إبداعية أخرى ، لذا حاز ثباتها على قيم المعتاش اليومي الذي نعرفه ، لكنه آت من فضاء اللامرئي المعروف للشاعر ووحده المقتدر على التقاط الجوهر منه ، والبقاء فيه ، كذلك الاستعارة منه ، فكل تجوهرات نصوصه وبريقها المدهش آتية للشاعر من هناك ، وهو الذي يراها ويحس بها ويرتضي التعايش معها طويلاً ، حتى الأبد ، لذا دائماً ما يستعيد وقائع وسرديات من فضاء الموت ويجلسها في الحياة ، هذا هو الجوهري الذي جعلني أن أقول على ترانسترومر وبحماس بأنه خالق : " كانت جنازة / فشعرت أن الميت / قرأ أفكاري / أفضل مني ص349/ أو : " قبل عام من موتي سأرسل أربع تراتيل / بحثاً عن الله / لكن هذا يبدأ هنا . نشيد عن القريب إلينا . ص156/
تظل الغابة حاضرة . رمز مزدوج ، ثنائي ، حياة وموت
الحقيقة ليست وجوداً انطولوجيا ، بل هي متحولة / متحركة / بمعنى سيرورة ، 
الحياة ولادة ، إعلان عن جديد ، وتجديد انبعاث وحركة ، كل تبدياتها محمولة برموزها وعلاماتها ، والرحم الذي يعطي حياة ، ينتظر استعادتها ثانية كما في المغامرات الأسطورية الأولى ، الأم ترنو لوليدها ، تراقبه وهي ينمو ويكبر لا تصده الحيطان ، كل الفضاء مفتوح له وعليه ، حتى لحظة الشيخوخة ونزول الموت ، حيث تستعيد الأم / الأرض مولودها ثانية ينبشون المدينة . لكن الآن يخيم الصمت .
تحت دردار المقبرة :
آلة حفر فارغة . الرفش فوق التراب –
حركة رجل نائم فوق الطاولة
وقبضته أمامه – جرس يرن / ص173
أو : البشر وحدهم لا حراك لهم .
وقفوا دقيقة صمت .
كان الموتى في مقبرة القرية خصوصاً 
جامدين
كمثل الوقوف أمامه آلة التصوير في بداياتها لأخذ صورة . ص175
صور عديدة ملتقطة بمهارة عالية ، اختزلت لحظة استكمال شروط استعادة الأم / الأرض لمولودها الذي عاد إليها بخصائص عتبة الولادة ، استعادته طفلاً ، لا يوجد حيطان تصده ، التحضير للدفن ، لابد من نبش للقبر ، لكن تونسترومر يرى ذلك نبشاً للمدينة كلها ، حيث الصمت الكلي تحت شجرة الدردار ، وفي هذا السرد الصوري معتقدات دينية بدائية ، الأم / الأرض حاضنة للميت وأم أخرى ، فوق الأرض الشجرة تظلله بحنوها وتحميه بأغصانها . ولابد من ملاحظة سيناريو الصور والقطع الحاصل فيه ، وما أضفاه على النص من تحبيك سردي واضح ، فآلة الحفر معطلة ، لأنها فارغة والرفش فوق التراب المكدس والذي يعني جهوزية القبر ، الفاصلة النصية تنقل المتلقي سريعاً ويعلن النص في نهايته : جرس يرن ، اكتفى الشاعر برنين الجرس الذي يومئ لبدء الدفن وانقطاع علاقة وتوقف ذاكرة كائن وتعطل مروياته . هذا الرنين يعني دلالة أخرى والغابة تستعيد حياتها في موسمها الخاص ، لذا استثمر هذا النموذج الغابي على الموتى وظل يستحضرهم دائماً " أفق على منصبة التنصت ، يريد الموتى أن يقولوا شيئاً / يدخنون لكنهم لا يأكلون ، لا يتنفسون لكنهم لا يزالون يحتفظون بأصواتهم . ص314 / لا يوجد فارق بين الأحياء والموتى في تصورات الشاعر وتخيلاته ، التي يعيد بها صوغ الغرائبيات والأساطير ويقدمها بآليته هو ، نقلبها نحن ولا نقوى على رفضها ، واعتقد بأن هذا الموقف الانطولوجي متأت من انعدام المميزات بين الأحياء والأموات وفي نصوصه الأموات أكثر حيوية من الأحياء وحتماً تنطوي استحضارات الأموات ثانية إلى الحياة على نوع تهكمي وسخرية حادة ولاذعة .
" ورثت غابة معتمة نادراً ما أذهب إليها . لكن يأتي يوم سيتبادل فيه الموتى والأحياء أماكنهم . وقتذاك تبدأ الغابة بالحركة ص330 / أو : على السطوح والساحات ، على العشب والقمح / للموتى وللأحياء تدق الأجراس المتناغمة ص298 / التبجيل والإجلال للثنائية ، الحياة ، والموت . كانا متجاورين في الدواوين ، ولا يفترقان ، لأن الشاعر يكشف عن أهمية الحياة وعظمتها من خلال الموت . ويوظف الشاعر ظاهريات الأمكنة كلها من أجل تمجيد الحياة وبلاغاتها " مؤلم هو المشي عبر الحيطان ، يمرضُ الإنسان بسببها ، ولكن هذا ضروري / العالم واحد . ولكن حيطان .. / والحائط جزء منك - / تعلم أو لا تعلم ولكن هذا واقع بالنسبة للجميع / باستثناء الأطفال الصغار . بالنسبة لهم لا يوجد أي حائط ص322/
الطفولة غير مقموعة ، تعيش حياتها من خلال أحلامها ، لا تعرف جداراً أو مصدّاً ، ترى بعيني الشاعر وكلاهما يشتركان بالأحلام والتخيلات المنتجة للغرائبي والأسطوري ، اعتقد بأن الشاعر تعامل مع الطفولة عتبة أولى في حياة الكائن الآدمي ، متماهية مع طفولة العالم البدائي الذي لا مصّد فيه وما مانع معطل . إذن لا وجود للحائط في تصورات الأطفال ، الفضاء مكشوف بانفتاح شاسع جداً " اتكأت السماء الصافية على الحائط / ذلك كالصلاة إلى الفراغ / والفراغ يدير وجهه نحونا / ويهمس / أنا لست فارغاً ، أنا مفتوح " ص323 .
عندما يسمعه الإنسان وهو في بيته ، إنه التواصل وحصول تبادل بين طرفين ومجالين ، الخارج والداخل ، بينما رنين النص عزلة أبدية . يضيء ترانسترومر أنطولوجية الحياة / الموت مرة أخرى – متكررة كثيراً – في نصه " خطاطة في أكتوبر ص189 :
في طريق عودتي إلى البيت أرى الفطور الزرقاء تنبجس من العشب .
إنها الأصابع الحائرة لذلك الذي
نشج وحده طويلاً في الظلام السفلي 
نحن للأرض .
صورة سريالية في استهلال النص ، أوحى بها الأزرق رمز الموت لدى الفراعنة ، وفي النص كان لون الشقوق الصاعدة من العشب وهي المتخيل الشعري الذي تمثله أصابع المنحدر في الهاوية ، الذي بكى طويلاً ، وهو في العالم السفلي / جهنم وهو يردد : نحن للأرض .
أضاء هذا النص القصير الدلالة الرمزية للأرض ، وقد تحدثنا عنها قبل قليل . في النصوص متسع للموت ، مثلما هو فضاء الحياة فالثلج حجاب الأرض والمرتفعات والغابات . له حضور هائل مثل الجدار المهيمن دوماً أكثر من الثلج المرتبط بزمن معين . الجدار ، حدٌ معنوي وموضوعي هو الكابح لحركة الكائن ومطوّق له ، ينطوي على سلطة ثقافية واجتماعية ، ارتضاها الإنسان وأوجدها مزينة بألوان زاهية من الداخل والخارج ، وتسلقتها الخضرة لتشطب صفتها وتتحول حديقة صاعدة من عمق الأرض : 
الغضب الصامت يخربش على الجدار
أشجار مثمرة تزهر ، الوقواق يصيح،
إنه خدر الربيع . لكن الغضب الصامت
يرسم شعاراته عكسياً في المرآب / ص315

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram