لا تزال تعلق في انفي رائحة خندق ترابي صنعه ابي في حديقة المنزل يوم نشبت حرب ايران قبل ٣٣ عاما. انها رائحة التراب في ظلمة الخندق، ونور الشمع الباهت وهو يضيء جذور النخلة المجاورة النابتة في الارض والمختبئة معنا. وفي تلك اللحظة كان النخيل والبشر وآلهة الاساطير في ليل شط العرب، ينصتون الى هدير الموت وهو يعلن دخولنا ثقبا اسود للتاريخ. ان والدي يسخر من قدرتي على تذكر تلك الحكايات، انا الطفل يومها، لكنني اتذكرها لأنها ليست حدثا انتهى كي يتعرض للنسيان، بل واقعة مستمرة بلا نهاية، وصوت واحد ينطلق من فوهة العالم السفلي بشهية ابتلاعنا جميعا.
منذ الثمانينات وموتنا يجري تبريره بكل المبادئ الدينية والدنيوية والمسوغات الثورية. قتلونا مرة من اجل صدام ونزواته، وأخرى من اجل "النظام العالمي" وثالثة من اجل المذهب، ورابعة وخامسة... وها قد مللنا، حتى ان بعضنا صار مستعدا للحوار مع الموت، ومع تنظيم القاعدة، لان ما تبقى لنا من الحياة لم يعد يستحق اية معاندة او مكابرة.
وبالطبع ليس هناك من منطق يسهل عليك ان تعرض الحوار على انتحاري بلا اي منطق. لكن بعض لحظات الوجع العميق جعلتني اسأل بسخرية سوداء، عددا من معارفي: ما رأيكم لو فكرنا بحوار مع القاعدة التي تنتحر في اسواقنا يوميا، على غرار رغبة اميركا في الحوار مع طاليبان؟
معارفي انقسموا حول الموضوع، فبعضهم تحمس لفكرة ان نحاور المتشددين، حتى بأمل ان يكون في وسعنا تقديم "رشوة" لهم، مقابل عدم حمل السلاح في اراضينا. وبعضهم قال "انا مستعد لعقد صلح الحديبية معهم، ومستعد لتمثيل الطرف الكافر، فقط لننتهي من الامر". لكن غيره رفض الفكرة بشكل راديكالي قائلا انه مستعد للموت ألف مرة على ان يجلس وجها الى وجه مع قتلة عديمي السويّة. وهنا تدخل فريق ثالث وراح يتحدث عن فكرة بدت جيدة: الحوار لا يستهدف القضاء على التنظيم ولا التصالح مع اهدافه، لكن قد يبدو ممكنا فرز بعض اجنحته وإبرام تسوية معها، لعلها تعيد النظر في كون العراق هدفا مشروعا بين "الاهداف العقائدية" التي تعتنقها. وكثير من اجهزة الاستخبارات نجح في تشجيع انشقاقات مهمة داخل جماعات العنف، وأضعفها وكسب المنشقين، والمنشقون هؤلاء خبراء بطريقة عمل العقل التدميري لتلك المنظمات، وسيساعدون على كبح خططه القاتلة.
وقد زدت على الرأي الثالث بالقول، ان دولا مجاورة نجحت في فعل هذا، بل ان الاميركان وبعض الاطراف العراقية، بادروا سابقا للاتصال مع جماعات مسلحة قريبة من القاعدة او عاملة في صفوفها، ونجحوا احيانا في كسبها الى جانب مشروع الدولة، وصار هذا جزءا اساسيا من تهدئة ملحوظة سادت بين ٢٠٠٨ و٢٠١٢.
الحوار مع الموت، طبقا لهذا، هو حوار مع اسباب الموت، والبيئات التي تنتجه. والعقلاء قادرون دوما على صناعة خطط جيدة لتعزيز اسباب السلام. لكن المأزق لا يتعلق بقوة القاعدة او بعجزنا عن تضييق مساحة حركتها الاجتماعية والمالية والسياسية والميدانية، بل بخطب ادهى وأمر.
ان ملف الامن بيد فريق سياسي وعسكري عجز عن الحوار مع القوى الشرعية في اربيل ونينوى والانبار، بل انه عجز عن الحوار مع مرجعية النجف التي يرتفع صوتها بالشكوى مثل اي مواطن يشعر بالفقد الموجع. وهذا فريق عجز عن الحوار حتى مع بيته الداخلي وكتلته البرلمانية، وشعر ان الجلوس على برج دبابة، يصنع مفهوما للامن والاستقرار. فريق السلطة اعتنق العنف ونسي السياسة، وركب رأسه وتحول الى راديكالي يشبه اية مجموعة قتالية مستعدة للتضحية بالشعب من اجل تمرير قناعاتها.
الحوار مع الموت ممكن، وانتزاع الكثير من اسبابه ممكن ايضا، والتواصل مع جماعات القتل بهدف ارغامها على اعادة النظر في هذه السيرة، فعل عقلاني يمكن ان يفكك البنية الاساسية لتنظيم القاعدة وسواه ويبعده عن بلادنا. لكن كل هذه الاحلام تنتهي بمجرد ان نتذكر عجز السلطان عن الحوار مع البرلمان المنتخب نفسه، وحينها كيف نطالبه بالحوار المحترف النابه والمسؤول مع عراقيين ينخرطون في العنف، وبيئات تحتضنه ومراكز قوى تشجعه، وكيف نقنع فريق السلطة بالتوقف عن الاخطاء الكبيرة التي تسهل عمل تنظيمات الموت.
ان الخندق الحربي القديم في بستاننا قرب شط العرب، يتسع اليوم ليغطي كل الوطن، فيفشل. ولعل أمامنا حروبا كثيرة، والاساطير ذاتها في غابات النخيل تدرك ان الحماقات لا تزال تصنع "اللا سياسة".
الحوار مع تنظيم القاعدة
[post-views]
نشر في: 31 يوليو, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 3
المهندس عمار الحلي
أني أتساءل هل الحوار ممكن مع الارهاب وبهذه المثالية ؟؟؟!!!واذا جاز لنا التخيل او الحلم بالحوار مع الارهاب ، اسأل من هو الوجه الحقيقي وأفصد من هو الممثل او حتى الممثلين الحقيقيين للإرهاب ؟؟(خاصة وان الارهاب عبارة عن مجاميع متشرذمة ذات تنظيمات خيطية ،فئات ذ
عراقي
والله حجي صحيح ومعقول ,اكعدوا وشوفوا حجيهم . اما بالنسبة للحكومة فما شفنه منه بس خطط امنية ومداهمات وهروب مساجين .والنيجة ذبح الشعب العراقي
محمد الجواري
اكولك سرمد , انت شنو بيدك سلطة حتى تريد تفاوض , بعدين الجماعة منو كال يقبلون يفاوضون أحد ؟ حتى ترتاحون , سلموا الملف الأمني بيد من تسمونهم بـ القاعدة كل مشكلة مراح تبقى , حتى ماحاجة للصبات الكونكريتية والسيطرات , راح يسيطرون على كل الوضع الأمني ومراح تب