فوز السينما الشرق أوربية بأهم جوائز الدورة الـ48 لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي، يعكس حضورها في المشهد السينمائي العالمي ويبرر للمهرجان تصنيفه كواحد من المهرجانات السينمائية العريقة التي تقدم منجزاتها بأكبر عدد ونوعية جيدة من الأفلام الجديدة الإنتاج،
فوز السينما الشرق أوربية بأهم جوائز الدورة الـ48 لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي، يعكس حضورها في المشهد السينمائي العالمي ويبرر للمهرجان تصنيفه كواحد من المهرجانات السينمائية العريقة التي تقدم منجزاتها بأكبر عدد ونوعية جيدة من الأفلام الجديدة الإنتاج، وبعيداً عن لعبة الجوائز ولجان تحكيمها فالمنافسة ووفق ذائقة نقدية صرفة ما كانت ستتقاطع معها، بل قد تختلف على خروج الفيلم البولندي "بابوشا" بتنويه مجامل كان يستحق أكثر منه بكثير لكن ما يهمنا هنا هو انتماءه الى منطقة شرق أوربا وبموضوع شائك يخص واحدة من المشاكل الجدية التي تواجهها وتضع "ديمقراطيتها" الناشئة على المحك ونعني بها "مشكلة الغجر" وكيفية النظر الى وجودهم البشري بين ظهرانيهم، على غرار ما فعله التشيكي يان هرجبيك حين عالج "المثلية الجنسية" في فيلمه "شهر العسل" واستحق عليه جائزة أفضل مخرج، وعلى مستوى الوثائقي جاء فيلم الروسي فيتالي مانسكي "أنابيب الغاز الطبيعي" ليكرس هيمنة اضافية حين توج بجائزة أفضل فيلم "فوق ثلاثين دقيقة" أما الأقل من ثلاثين دقيقة فكانت من نصيب الدنماركي أميل لانغبول عن وثائقية "صبي الساحل". فيما تقاسمت ممثلات فيلم "الطائر الأزرق" وهو من إنتاج سويدي أمريكي مشترك جائزة أحسن ممثلة ,ذهبت الكرة البلورية لأحسن ممثل الى الآيسلندي أولفور داري أولفسون عن دوره في فيلم "قياس أكبر" أما العربية فشعبيتها كانت أكثر بين الجمهور الذي وضع "عمر" لهاني أبو أسعد و"وجدة" لهيفاء منصور بين الأفلام العشرة التي أحبها.
ساس يقرأ "الدفتر الكبير"
يعود الحائز على الكرة البلورية المجري يانوش ساس في "الدفتر الكبير" الى الحرب العالمية الثانية من خلال حكاية طفلين عاشا مآسيها مستعرضاً من خلال تجربتيهما المتغيرات التي شهدتها بلادهما بين حكم النازيين الألمان و"المحررين" الروس والتي ستترك آثارها عليهما وعلى المجتمع الهنغاري ككل. ربما يضع هذا النص التاريخي المقترح الفيلم في خانة "أفلام المراجعة التاريخية" وأن مال ساس الى تقديمه كرؤية لحالة إنسانية محددة في ظرف تاريخي محدد يمس حياة طفلين شهدا انقلاباً هائلاً في مسيرة حياتهما على أثر وجود طارئ، مريع لا تفسير له عندهما سوى بوصفه قدراً جُرا الى مواجهته وهما في سن صغيرة، وكنوع من التحدي وحتى لا ينسيا ما غيرهما نحو قساوة مبكرة سجلا تفاصيله في دفتر مدرسي قام المخرج ساس بتقليبه وفق رؤيته الخاصة لتاريخ بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية والتي أراد من خلاله لعنة الذين حكموهم بالقوة وقرروا شكل النظام الذي عليهم الخنوع له. في محاولة تميز أراد "الدفتر الكبير" تسجيل موقف نقدي للروس والألمان على حد سواء، بل أراد والى حد ما عرض صورة النازي بشكل مغاير عن صورته النمطية والروس على عكس ما ثقفوا به على مدى نصف قرن، فهم في فيلمه مغتصبون وقتلة، وما ادعوه من قيم التحرر والعدالة تناقضت في أول ظهور لهم فوق مدرعاتهم التي اغتصبوا فتاة مشردة فيها ثم رموها ميتة، أما درجة التمزق الاجتماعي السياسي فستتجلى تعابيرها في رحلة الصبيين من بيتهما الى بيت الجدة القاسية والنهاية الدرامية التي يقرر فيها أحدهما الهروب خارج حدود بلاده تاركاً أخاه ليعاني ما عاناه الشعب الهنغاري تحت سلطة الدولة القائمة على سحق النازية وترسيخ نهجها الشمولي البديل.
بالأبيض والأسود.. أجمل
التنويه الخاص من لجنة التحكيم يشير في الأغلب الى حرجها جراء حرمانها فيلم "بابوشا" ليوئنا كوس ـ كراوزه وكرشتوف كراوه من نيل احدى الجوائز الرئيسة مع ان الأمر لا يغير من أهمية الفيلم الذي يبقى على مستوى البصري واحداً من أجمل الأفلام المصورة بالأسود والأبيض المعاملان بتقنية حديثة تمنح الضوء المنعكس من تفاصيل اللقطة لوناً داخلياً حاراً ما يزيد من الجمالية المشهدية التي اشتغل عليها المخرجان بشكل مدهش. أما على مستوى الحكاية فهي استثنائية تخص حياة الشاعرة الغجرية البولونية "بابوشا" التي خرجت عن كل الأعراف الثابتة لأبناء جلدتها ومثلت تحدياً للمجتمع الأكبر الذي يعامل الغجر بدونية ولا يتوقع منهم أي مبادرة للارتقاء الى مستوياتهم "المتحضرة" والوصول الى أعلى دراجاتها المتمثلة في كتابة الأدب، والشعر، على الخصوص. فحقل التعليم ظل حصراً على "البيض" وبالمقابل لم يعبأ الغجر بجهلهم الكتابة والقراءة فهم، وكما يشير موروثهم الثقافي، لا يريدونها بوصفها شكلاً من أشكال تدوين الذاكرة "والغجري لا يريد تسجيل ذاكرته" لأنه رحال لا يعود الى مكان مرتين والذاكرة موجعة قد تدفعه للتوطن، وهو ما لايريده ومن هنا عارضت قبيلتها رغبتها بالتعلم كما امتعضت المؤسسة الرسمية من خروج شابة غجرية من شرنقتها طامحة في الانتقال الى صف "المتفوقين" وهو أمر تحملت تباعته كثيراً، خسرت شعرها وحبيبها وخضعت لشروط عيش قاسية. "بابوشا" التفاتة سينمائية لمشكلة حقيقية تعاني منها أوربا الشرقية على وجه الخصوص بعد انتقال دولها من الاشتراكية الى الرأسمالية وهو تحفة بصرية ممتعة بكم الجمال الذي ينتقل منه الى مشاهدي فصل طويل وحزين من تاريخ حياة شاعرة موهوبة جاءت من مكان لا يحب الكتابة وعاشت في وسط لا يحب الغجر.