TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الأيقونات القاتلة

الأيقونات القاتلة

نشر في: 2 أغسطس, 2013: 10:01 م

تقوم الحروب والأحزاب والشخصيات والتجمّعات الطائفية والعنصرية والمتشدّدة والقومانية، في العالم العربيّ والإسلامي اليوم، دون شك، على قِيَم رمزية تاريخية، سُلِخ بعضها عن شروطها التاريخية وسياقات انبثاقها، وهُمِّش ضعفُ وتردُّد وعظمة وقلق الكائن الآدميّ الذي صنعها، فتحوّلتْ إلى "أيقونات" ثابتة جرى رفعها شعاراً، وصارت صورةً للمقدّس، القوميّ أو الديني. صارت باختصار (مرجعيّة أيقونية) إذا صح التعبير في السياق الحالي. ما هي الأيقونة؟.
الأيقونة بالأصل عمل تصويريّ كنسيّ، يستند إلى نموذج أوليّ (بروتوتيب) افتراضيَ لا يجوز الخروج عليه بتاتاً أو قليلاً. تقعيدها الصارم ومعرفتنا المسبقة للمشهد المصوَّر فيها، جعل ممكنا استخدام المفردة نفسها، لاحقاً، في سياق دنيويّ، بمعنى صيرورة الأيقونة أداة للاختزال، وتمثيلاً مجازيّاً يقدِّم شخصاً أو وضعية أو إيماءة جسدية في إطار خصائص أو مميزات ووظائف ثابتة، يُمْكِن للمشاهِد التعرُّف عليها على الفور، مثل أبطال السينما الأوروبية المشهورين وأبطال أدب الأطفال وغير ذلك، كأننا ننتظرها "بشكل طبيعيّ" بحيث أن الرسالة التي تسعى الأيقونات المعاصرة إلى إيصالها ستكون مشوَّشة عند غياب تلك الوظائف. من الأمثلة الشهيرة للأيقونات المعاصرة صُور مارلين مونرو وجيفارا وهتلر.
الأنظمة الدكتاتورية العربية استخدمت الصورة بهذا المعنى، فقدّمت الطغاة صدام والقذافي وبن علي بشكل نمطيّ، مكرّر: أيقونات ذات وظائف، في الوعي المحليّ والعربيّ. على الصعيد السياسيّ والأدبيّ، تحوّلت بعض الشخصيات إلى أيقونات بالآليات نفسها. هكذا يمكن الحديث عن محمود درويش بصفته أيقونة فلسطينية، وأدونيس كأيقونة في الشعر العربيّ. جميع برامج صناعة النجوم اليوم في العالم تسعى بكل الوسائل إلى خلق أيقونات جديدة، علماً بأن مفردة (النجم، والنجوم) هي ترجمة للمفردة (idol) = وثن، صنم، معبود، ذات الطابع التقديسيّ والوظائف الثابتة، أي الأيقونة من جديد. نتذكَّر كلنا دون شك تعبير (معبود الجماهير) المرتبط بصورة عبد الحليم حافظ.
لكن الشخصيات التاريخية في التراث الإسلاميّ، حسب قراءتي له، لم تتحوّل إلى أيقونات إلا في وقت متأخر، أثناء أوقات الصراع العقائديّ، وخاصة الطائفيّ، على يد المذاهب جميعاً. ففي كُتب التاريخ المتقدِّمة نسبياً، خذ مثلاً السيرة النبوية لابن هشام (ت سنة 218هـ) وتاريخ الطبري (توفى سنة 310هـ)، نجد روايات وأحاديث وحكايات وطرفات تنمّ عن "بشرية" بل "هفوات" بعض كبريات الشخصيات المعروفة، الأيقونات اللاحقة، بحيث يقع اليوم تجنُّب الاستشهاد ببعض أخبار تلك المصادر أو طمسها أو الشك غير العقلانيّ برواياتها. يستهدف كل طمسٍ للواقعيّ والبشريّ للشخصيات التاريخية تثبيت أدوار ثابتة نهائية لها، أي صور مُقعّدة لها، سلبية أو إيجابية، حسب هذا المذهب أو ذاك. ومثلما ننسى اليوم إنسانيّة وسويّة واعتياديّة شخص مثل جيفارا، بسبب الأيقونة الشهيرة له التي تحْملها الفتيات والفتيان على الـ (تي شورت)، يطلب منا الوعي الأيقونيّ أن ننسى حقيقة شخصيات ماضينا التاريخية، بعظمتها وبآدميتها.
لكن هذه الوجهة ليست أخطر وجهات المسألة. فالوعي الطائفيّ المتوتر، والدينيّ غير المتسامح، يطالبنا أن نرتدي (تي شورتات) تحمل صور الأيقونات الدينية، ونقاتل بعضنا باسمها. الأمر واقع فعلياً وليس رمزياً.
غدت الأيقونة الدينية لدينا مُرادِفاً ومُعَوِّضاً عن مفهوم (الهويّة) المذهبية والطائفية، على مستوى الصورة، وعلى مستوى الخطاب اللفظيّ، من الأطراف جميعاً.
السؤال الذي يبدو جوهريا: ألا تشكِّل الأيقونة الأخرى، فلنقل المعادِية، مُكوِّنا جوهرياً لإيقونتنا نحن أنفسنا؟ ما قيمة أيقونتنا نحن، منعزِلةً، من دون الأيقونة الأخرى؟.
إذا أراد أمين معلوف التذكير في كتابه "الهويّات القاتلة"، بأننا نتكوّن، في الحقيقة، من هويّات متعددة، متعايشة في دواخلنا، يصحّ القول بأننا نتكوّن أيضاً من أيقونات متنوّعة، متعايشة في دواخلنا.
عدا ذلك نتحوّل إلى أيقونات قاتلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram