تمكن ديكتاتورات العالم العربي من كبح جماح الجماعات الاسلامية المتشددة لسنوات وعقود، ولكن الثورات التي اندلعت في 2011 منحت الاسلاميين حرية العمل. ففي تونس، مهد الربيع العربي، شرعت مجموعة صغيرة - ولكن جيدة التنظيم - من السلفيين بتحدي الدولة من خلال تأس
تمكن ديكتاتورات العالم العربي من كبح جماح الجماعات الاسلامية المتشددة لسنوات وعقود، ولكن الثورات التي اندلعت في 2011 منحت الاسلاميين حرية العمل. ففي تونس، مهد الربيع العربي، شرعت مجموعة صغيرة - ولكن جيدة التنظيم - من السلفيين بتحدي الدولة من خلال تأسيس نظام قضائي بديل. وتفتقر "المحكمة" الى الهيبة التي تصاحب المحاكم عادة، فالمراجعون لا يدخلونها من خلال بوابات كبيرة بل يتوجب عليهم اختراق مخزن مليء بالملابس النسائية. أما القاضي، فليس لديه مكتب او حتى كرسي يجلس عليه، بل ينظر في القضايا المطروحة أمامه وهو واقف في مساحة لا تتعدى مترين مربعين تحدها صفائح من الحديد.
ومع ذلك، اكتسب النظام القضائي الذي يتخذ من كشك صغير لبيع الملابس في مدينة بنزرت مقرا له شعبية كبيرة في أوساط السكان، وشكل تحديا جديا لسلطة الدولة التونسية.
يدير هذه المحكمة غير الرسمية مقاتل جهادي سابق ذو لحية طويلة كثة وصوت هادئ يدعى عبدالسلام شريف يستند الى الشريعة الاسلامية في إصدار الأحكام في شتى القضايا.
فعلى سبيل المثال، تراجعه سيدة أنيقة الهندام وتطلب منه منع زوجها من تطليقها والاحتفاظ ببيت الزوجية له ولخليلته، كما يراجعه والدا فتى في الرابعة عشرة من عمره يتهمان شخصا بسرقة الهاتف العائد للفتى ومحاولة اغوائه.
وحتى رجال الشرطة يقصدون عبدالسلام مفضلين العدالة التي يحكم بها على تلك التي توفرها محاكم الدولة، فهذا شرطي جاء الى الكشك يشتكي مستأجر الشقة التي يملكها.
وفي كل هذه القضايا وغيرها يحل عبدالسلام ومساعدوه المشاكل بكفاءة يقول كثيرون ان الدولة لا تتمكن من مجاراتها. فالسيدة بقيت في كنف زوجها، اما الفتى فقد استرد هاتفه ولايتمكن من حاول اغواءه من مغادرة مسكنه. ومستأجر شقة الشرطي تلقى "تهديدات" اجبرته على ترك الشقة والانتقال الى سكن آخر.
ولكن بالنسبة للسلطات التونسية، يمثل عبدالسلام المشكلة وليس الحل، ولذا عمدت في يونيو / حزيران الماضي الى حل المشكلة بهدم "كشك العدالة."
ولم يتبق من الكشك سوى حطام، اما عبدالسلام فقد هرب الى ليبيا او مالي.ولكن التهديد الذي كان يمثله لهيبة الدولة التونسية لم يختف تماما.
فالسلفيون الذي ينتمي اليهم عبدالسلام قد تمكنوا من العمل بحرية في تونس وليبيا ومصر منذ الثورات التي شهدتها هذه البلدان.
وبينما يرفض كثير من السلفيين استخدام العنف وسيلة لنشر معتقداتهم، شذت أقلية منهم في تونس عن هذه القاعدة، واصبحت تشكل خطرا ماثلا للسلطة.
ففي سبتمبر / ايلول الماضي، هاجمت جماعة من هؤلاء السفارة الامريكية في العاصمة تونس، وفي فبراير / شباط اتهمت الشرطة سلفيين باغتيال المعارض العلماني البارز شكري بلعيد. وفي الاسبوع الماضي، اغتيل سياسي علماني آخر هو محمد البراهمي باستخدام نفس السلاح الذي استخدم في اغتيال بلعيد حسبما أفادت وزارة الداخلية.
ولكن في بنزرت، لم يكن للعنف ذلك البروز ولكنه حاضر دائما، إذ شكل متطوعون سلفيون دوريات اخذت تتصرف كشرطة غير رسمية وتفرض على الناس الالتزام بما يرونه اخلاقيات الاسلام.
ففي حادثة سجلتها بي بي سي، التي قضت مدة شهرين في تصوير وثائقي في المدينة، انقض سلفيون على رجل اشتبهوا في تناوله الخمر واشبعوه ضربا بسلسلة حديدية.
وقال رجل آخر، أصيب إصابات بالغة في رأسه، إنه كان يحتسي الجعة في سيارته مع صديق له عندما باغتتهما مجموعة من السلفيين واخرجتهما من السيارة وهاجمتهما بالسيوف.
وقال هذا "كانوا يهتفون الله اكبر، بينما كانت الطعنات تنهال على رأسي ووجهي. حاولت الدفاع عن نفسي بيدي، ولذا ترون هذه الجروح."
وبدأت الحملة رسميا بعدما حظرت الحكومة مؤتمرا كان السلفيون قد دعوا له في مدينة القيروان في مايو / ايار الماضي. واستخدمت السلطات الغاز المسيل للدموع لتفريق السلفيين الذين القوا بدورهم الحجارة على الشرطة.
وقال محمد العروي الناطق باسم وزارة الداخلية التونسية "بعد الثورة، انهار الأمن والنظام في البلاد. كان علينا استعادة السيطرة على الوضع خطوة خطوة. كانت الدولة مهددة، إذ حاولت بعض الجماعات التغلب عليها. لقد اجبرونا على التصرف وإعادة الأمور الى نصابها. كان علينا إعادة تونس الى التونسيين مجددا."
وبالنسبة للاسلاميين المعتدلين في حزب النهضة الحاكم، تطلب التعامل مع التحدي الذي يمثله السلفيون تبني سياسة تتسم بالحساسية والتوازن الدقيق.
فالمجتمع التونسي مجتمع متحرر نسبيا، ولذا يقتضي من حزب النهضة تطمين العلمانيين ليتجنب الإطاحة به كما أطيح بالإخوان المسلمين في مصر. ولكن عليه ايضا مراعاة ولاء مؤيديه من الاسلاميين.ولم تبد بنزرت - الميناء التونسي الشمالي المنفتح على شتى الحضارات - مكانا ملائما للسلفيين يتحدون منه سلطة الدولة. ولكن في احياء بنزرت الفقيرة ما زالت تعتمل المشاكل التي ساعدت السلفية على الانتشار.
يقول ابراهيم الطرابلسي، وهو سلفي شاب يعمل بائعا للملابس المستعملة في السوق "تونس ما لبثت تغرق منذ الثورة. فكل شيء باهظ الثمن الآن، وهناك القليل من فرص العمل. فالكثير من المصانع أوصدت أبوابها، بينما انحسرت حركة السياحة بسبب خوف السائحين من الإرهاب والعنف."
وفي مثل هذه المناطق الفقيرة، يقوم السلفيون بتوفير فرص العمل وفتح المدارس وتوزيع المساعدات على المحتاجين وجذب العامة من خلال نظامهم القضائي البسيط.