TOP

جريدة المدى > عام > شيركو بيكه س.. يعزف على اوتار قيثارات الوجود

شيركو بيكه س.. يعزف على اوتار قيثارات الوجود

نشر في: 5 أغسطس, 2013: 10:01 م

كي أقف عند تخوم مثل هذا الشعر علي أن أستذكر اللحظة المجاورة التي كنا بها أنا والشاعر في بيئة واحدة قمم كردستان في الأعوام الأولى من ثمانينيات القرن الماضي. لا هو ببندقية وشروال أسطوري يخبئ ما يمكن أن نطلق عليه روح الشعر الخضراء ، وأنا نزيل ربيئة معلق

كي أقف عند تخوم مثل هذا الشعر علي أن أستذكر اللحظة المجاورة التي كنا بها أنا والشاعر في بيئة واحدة قمم كردستان في الأعوام الأولى من ثمانينيات القرن الماضي. لا هو ببندقية وشروال أسطوري يخبئ ما يمكن أن نطلق عليه روح الشعر الخضراء ، وأنا نزيل ربيئة معلقة مثل فانوس بجدار على الحافة الحادة فوق جبل هرزله والمطلة على ناحية نال باريز المدخل الأزلي لحوض الفردوس المسمى حوض بنجوين.
الفرق بين المكانين يختلف في نمطهما الوجودي والفلسفي والوطني ، ولكنهما يلتقيان في حسية الانتماء الى شيء يطلق عليه إغريقيا : الإيحاء بمودة الآلهة .
وتلك واحدة من طاقات الشعر، لأن الموجودين في المكان كانا ضدين وأحلاماً متفرقة وهما يتقابلان في ارتداء قبعة لمشهد واحد، ففي جعبة الأول بندقية وقصيدة، وفي جعبة الثاني ما عند الأول.
أعطاني العريف فرهاد قصائد مترجمة الى العربية لشاعر الكرد عبد الله كوران.
كانت رومانسية كوران تطفح بشيء من ديالكتيك الغناء المشبع بروح البساطة والتكوين الساحر لأرض بلاده. كانت شعبية كوران نمطاً من حس متداول لهذا فعندما قرأته لأول مرة لم تمتلكني حداثة المشهد ولم يشدني الشعر الى غرابة الثقافة.
كان كوران يتحدث برومانسية ممتعة عن بلاد يتمناها ورعاة يعزفون بالمزامير حلمهم الأسطوري أن يأتي القمر ليعلن لليل هذه الرواقم أنهم أصبحوا أحراراً وبإمكانهم أن يعيشوا مثلما يعيش الفُرس والعرب والترك. ولأنني أحمل ثقافة الجيش وتفكير المدى البعيد لسلطة الأدب على الذائقة اكتشفت أن كوران بالنسبة لي ليس سوى غنائية حالمة بمصير ما ينتمي اليه . وأنا هنا ليس سوى بيدق عليه أن يتحرك ضمن مربعات مساحة السرية كي يمنع هذا الغناء من الوصول الى مقدمة مزامير أولئك الرعاة الذين تركوا قطعان ماشيتهم والتحقوا بمام جلال في العمق البعيد وكهوف المضائق في جوارته وأحمد رومي وسبيدارة وجميع مرتفعات كاني بنكه وكاني سبيكه وهي الحواف الأزلية لواحد من أخصب سهول الأرض والمسمى سهل شهرزور ، لهذا أعدت الكتاب الى فرهاد سريعاً لأن هذا الكتاب كما أعلنت له : لن يجعلني أنام براحةٍ في هذه الربيئة ولن يكسبني متعة المشاهدة عبر الناظور الى المدينة النائمة عند قاعدة هرزلة وأقصد نال باريس.
في اليوم الثاني وجدت فرهاد يقرأ في كتاب جديد، ومن تراصف سطوره عرفت انه ديوان شعر.
قلت : عبد الله كوران مرة أخرى ؟
قال : كلا ، هذه المرة شيركو بيكه س.
لم يمر هذا الاسم مرور الكرام بل أثارت موسيقى لفظته للاسم حدس افتراضي على أن نمط من تلك الأبجدية في أعلام الأدب الكردي سوف لن تقودني الى تدفق الكمانات الكورانية وتلك الرومانسية المعلقة على قمم الرواقم مثل ثمر الجوز قبل القطاف، وعليه كنت أمتلك شيئاً من شغف القراءة ، لكني لا أعرف الكردية مما حدا بفرهاد أن يترجم لي ديوان شيركو والذي قادتني صدفة الحياة أن أقرأه مترجماً وكان بعنوان (دووسروودي كيوي) ومن هذا الديوان أستعيد متعة الترجمة المفككة والمرتبكة والشعبية لفرهاد وهو يشدو مثل ثمل واحدة من أجمل قصائد الديوان وهما بمثابة ملحمة يتشكل فيها وجود شعب نال معه الشاعر شيئاً كبيراً من قهر الأنظمة والحياة ، والقصيدة هي :(أنشودتان جبليتان) نشرت في الديوان في عام 1977.
لا أدري أن كان ثمة تماثل في المكان من خلال روح القراءة، فالقراءة تصنع التخيل، والتخيل يصنع المكان والمكان يصنع المواددة.
وأنا أقرأ شيركو بكه س لأول مرة كان المساء يتسع على مساحة دخان القذائف، لكن الشجر يغلي بخضرة حاسرة الرأس تريك ما للشتاء من سحر. وعلى حد تعبير غاستون باشلاار : المكان هو مهدنا الأزلي.
لهذا ما افترضته من جدل الملحمة للنشيد الجبلي لشيركو صنع لدي قناعة أن الرجل الشاعر ربما موجود في المكان نفسه.
وهكذا صنعت قراءاتي للنص وتفسيراته على ما تمنحه لي الذاكرة من تخيل مكان الشاعر من أجل صنع فهم متبادل لما تعنيه الطلاسم الحميمة وهذه الغنائية المتشحة بذات تتفلسف حسب رغبات الروح المتصوفة في مكان صنع القهر فيه لقلب الشاعر وجعاً رومانسياً قاده ليسلك الممرات النيسمية والمغارات ليبدأ كما يقول جيفارا : الحياة التي نودع فيها الشعر والفكر الى حين.
أقرأ شيركو بترجمة فرهاد التي نسيت تعابيرها البسيطة ولكني الآن أعيد ترتيب ما كان يقصده في تلك الجدلية المتسعة المساحة والممتدة على شكل أخدود من الحلم من قليسان حتى وادي توتمان.
وقتها كان إيقاع السماع يعطي جزءاً مختصراً من صوفية شاعر يدرك في رغبة الشروع بالغناء: أن وقيعة الألم تأتي من حدث ذهب بعيداً لهذا تصورت في النص أن المكان يفسر غايته بقسرية عانت كثيراً وهي تنشد لآمالها.
كنت أستمع وأسمع والفرق بين المفردتين على مستوى الشعر أن السماع يقودكَ الى حدود المتعة التي لا تنتهي.
كان شيركو عازفاً على أوتار قيثارات الوجود الذي ملكه للتي بَعُدتْ عنه بفضل المعاناة والقسر.
ولأن المكان يجمعنا بقصدية المفارقة ركنت الى طقس السماع وأرخيت ذاكرة المديح التي أحسها بقدرة مرئية وتحكمت بكل ما قصده في تعامل المتأمل فيما يرى من غيب لقادم بلاده تصنعه تلك الربى بفضل الهموم القومية التي قامت على فرضيات تقرير المصير، غير أن بيكه سه يتعامل مع النص وأنا اقرأه قراءة متأخرة بوعي تلتقي فيه ميتافزيقيات أكثر من حسية طافحة بالتجديد والتمكن من جعل نشيد الطبيعة نشيد أمل لمتغيرات القادم عبر التحدث عن أساطير وأمكنة وحوادث ومشابهات خلقت وعي الفكرة الكردية لتكون أنطولوجيا للبحث عن الهوية عبر منافي الأراضي البور التي نزحت اليها قسريات عهود الأمس على شكل جماعات وعشائر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram