عبد الستار ناصر كان يعشق الحياة بهوس مفرط، لذلك ظل يغني لها كثيرا، ويكتب لها كل السرديات الملعونة، وسوانح البوح المجنون.. علاقته بحياته هي علاقته بجسده، الجسد المتوهج بالغواية، مثلما هي علاقته بلغته، تلك اللغة المسكونة بالدهشة، واللذة، والمفتوحة على
عبد الستار ناصر كان يعشق الحياة بهوس مفرط، لذلك ظل يغني لها كثيرا، ويكتب لها كل السرديات الملعونة، وسوانح البوح المجنون.. علاقته بحياته هي علاقته بجسده، الجسد المتوهج بالغواية، مثلما هي علاقته بلغته، تلك اللغة المسكونة بالدهشة، واللذة، والمفتوحة على الكثير من سرائر المغامرات الخبيئة والمكشوفة..
كان يكره الموت، ليس لانه الضد الكامل، بل لانه لعبة المحو التي تقسو على الجسد، اللعبة التي تسرق احلام الولد الذي يستوطنه، وتشوه صورته العالقة بالمرايا.. ظل يمارس المجاهرة ازاء كل نقائض الموت، بدءا من لحظات وعيه الاولى حين كان يكتب عن الولد الحالم، الولد الذي تؤججه النساء بالشهوات واللعنة، وحين تطلقه اللغة الى فضاءات ساحرة من التخيل الذي يجسّ المكان والجسد، وانتهاء بكتاباته الاخيرة التي جاهر فيها ايضا بالاحتجاج على الموت في صور الحرب والظلم والقهر والتغييب، اذ تجوهرت فكرة الاحتجاج ايضا على ثيمة الجسد بوصفها الفكرة الثقافية والمعرفية والانسانية، وبوصف ابطاله هم الضحية الذين يذهبون بمجانية بائسة مثل (قشور البطيخ) او يأتون متأخرين بعد(خراب البصرة)
موت عبد الستار ناصر لحظة فادحة لشتم المنفى، المنفى الذي لم يوهمه يوما بالامان، اذ هو موت علني للذاكرة، تلك التي تورطت بالهروب كثيرا، الهروب الوطني، الهروب السردي، الهروب الى اطمئنانات مغشوشة...
لم يشأ عبد الستار ان يكون الا هو، ذلك الولد الهارب من(الطاطران) والمتمرد على اوهام الشيخوخة، يشاكس في احلامه وكتاباته لكي تبحث عن وجه اخر للحياة، الحياة التي لاتضللها الحروب والطغاة والعسس والخيبات العمومية..
لكنه رغم ذلك ظل اليفا وطيعا موصولا بذاكرة لزجة للمكان القديم، المكان الاوديسي، ظل يتسلل مثل مشاغب الى العابه الاولى، يبادلها الرثاء والحزن والحنين، يلامس عزلتها في عزلة جسده المعلول ب(السكّر) والاصابع المطوية من صدمات المدن التي شاطرته الرحيل ورثاء الجسد..
استعادة عب الستار ناصر في لحظة موته العلني هي استعادة لوعينا(الخرب) الوعي الذي ظل شقيا بكل شيء، الوعي المحاصر باوهام الحرب ومراثي الموتى العابرين، وقلق الوجود الضاج تحت جلودنا، اذ كان عبد الستار واحدا من شهود تحولاته المفتوحة، بدءا من سحرية التحول الثقافي، حيث اشتغالات وعيه التجريبي، ولغته الرخوة، ورؤيته التي تتسع بحثا عن المتغير واليومي والحسي، وانتهاء بشهادته على يوميات الخراب، حيث الحرب والرصاص الوطني والاحتلال والرهاب العميق، وحيث الراحلين الى قبورهم واوهامهم، وحيث الخيانات العلنية التي لايعرف الولد الا يجاهر بقلقه ازاءها، قلق الولد الرائي، الذي يكره وجه الطاغية، وسحنته التي تصيبه بالخوف من الموت..
تحولات الكتابة عند عبد الستار هي تحولات الزمن الثقافي، زمن صعود الفكرة، وموت الفكرة، زمن الجسد بوصفه ايروسا وقنديلا، وبوصفه منفيا ومهزوما وعاطلا.. هذه التحولات تجوهرت ايضا في تحولات نصية استلهمت ثنائية الموت والحياة لتقارب الجسد والمكان والنص، وبما يوحي بقدرته على ان يستعيد وظيفة الرائي القديم، الذي ظل يبحث عن الحياة بهوس، تلك الحياة العاطلة التي شاطرته رعب المنفى في المدن الغريبة، المدن التي لم تشاطره السرير او الزاوية او السكرة، لانه ظل مسكونا بالولد الضد، الولد الحالم، الولد العاشق..
مات اخيرا عبد الستار ناصر ليجاهرنا بان الموت قد باغته في لحظة فارقة، واطلق عليه رذاذ نعاسه الأبدي...










