يتجول العراقيون هذه الأيام في أحيائهم السكنية وشوارعهم، شاعرين بأنهم تحت رقابة "فوق العادة". الشوارع والمناطق داخلة في الإنذار، فالسلطة تراقب بوجل كل شيء، والقتلة يتجولون كثيرا ويتصفحون وجوه الناس ليتفننوا في ساديتهم.
يقطع العراقي الدروب، ويشعر ان الجميع يلاحقونه. نظرات رجال الدين الموتى والأحياء خارجة من الجداريات والصور، تلاحق العراقيين بنظرات عاجزة. كل الآلهة التي عبدها العراقيون عبر ١٠ آلاف عام، تراقب في قصائد الشعراء ومدونات مسجلي الموتى وشريط الأخبار في المحطة المحلية، مسارات بني آدم على هذه الأرض المعذبة. التواريخ والملاحم تلاحقنا بنظراتها ايضا، وتحدق باستغراب في أمة تجهل سبب الموت المستمر.
السكان يقطعون الدروب المشوية بشمس آب، ويشعرون بأن الكهنة والآلهة والحكومة والانتحاريين، يلاحقونهم بنظرات عجز وانسداد، كلما حل موت لا سبب له. انه هلاك يقيم معنا بلا تفسير، دون ان نصدق ان لدى القاتل هدفا يمكن تبريره، ودون ان ننجح في الاقتناع بأن "حكمة" الساسة عجزت عن وضع حل او العثور على منفذ، للتعامل مع أشباح قتلة، لا احد يدعمهم ويمدهم بالإرادة اكثر من غياب الحكمة في بلاد العشرة آلاف سنة من التمدن.
انه أول عيد يمر على العراقيين بعد عودة الهول الكبير للإقامة بيننا. لقد أمضينا بضعة أعياد وسط "امن نسبي" كان يدافع عنه الجنرالات، وكنا قانعين حامدين مصلين وراضين، اذ كنا على موعد مرتين في الشهر مع عملية هنا وأخرى هناك. يومها اقتنعت القاعدة وأشباهها بأن لا ضرورة "لتبذير" الانتحاريين ، وراحوا يقتصدون ويدخرون ذلك لحملات وغزوات "نوعية" مانحين الشعب استراحات ظلت لها في قلوبنا قيمة كبيرة وأهمية عظمى، وما بالنا لا نفرح بأننا عالقون في مرتبة بين المرتبتين، وسط منزلتي الحرب والسلم، بعد حفلات الشواء البشري التي استمرت حتى ٢٠٠٨؟
بيد ان هذا العلوق "المحبب" بين الحرب والسلم، اصبح من الماضي، حين قررت القاعدة (ويبدو انها هي التي تقرر في هذه البلاد) ان تعود الى سيرتها الأولى في "التبذير". وها هو العيد يأتي والخوف العظيم لا يخيم علينا نحن السكان فحسب، بل يخيم على السلطان نفسه.
انه أول عيد يضطر السلطان فيه الى الإقامة بين محبسين، اذ لم تكفه الأطواق الأمنية الرهيبة التي يعيش داخلها منذ سنوات، حتى أقام طوقا إضافياً ونشر الحواجز وقطع الطرق من حول دار الإمارة وماجاورها من "المؤسسات الحساسة" ولا يهم بعد ذلك ان يبقى العراقيون في عراء "اللا أمن"، يسمعون نشرة اخبار الحكومة التي تبشرهم باعتقال ٣٠٠ مجرم خطير، ثم ٢٠٠ ثم ٣٠٠ في كل المناطق الساخنة والباردة، ليعقب ذلك موت ٣٠٠ ثم ٢٠٠ ثم ٣٠٠، في سباق غامض بين إحصائيات القتلى والمسجونين.
نعم، ان السكان يقطعون الدروب المشوية بشمس آب، ويشعرون بأن الكهنة والآلهة والحكومة والانتحاريين، يلاحقونهم بنظرات عجز وانسداد، كلما حل موت لا سبب له. لكننا سنتذكر في لحظة اننا اعتدنا مصائب سلاطين بلا حكمة، وأن جلودنا تعلمت كيف تتلقى قصف خيباتهم واندفاعاتهم وزهوهم الأجوف. ولذلك فلن تمنعنا لحظة الهول هذه، من ان نجعل عيون الكهنة والآلهة والحكومة والانتحاريين، تراقب ما تبقى من قدرتنا على صناعة الفرح، حتى لو كان فرحا معجونا بالغصة ذاتها.
هناك على كورنيش البصرة سيظل الشباب السمر حتى الصباح يعزفون اللحن القديم ذاته ليلة العيد، وستراقب كل الآلهة التي عبدها العراقيون ١٠ آلاف عام من التاريخ المدون، فرحا شبيها قرب انهارنا التي أحصاها العهد القديم في كل المدن، وستنغمر المراثي في ثياب حزن يجري غناؤه وتطريبه، كما سيخرج البغداديون لتبادل التهاني، وتذكير بعضهم بأن مدينتهم الابدية، جزء من العالم القديم الذي يريد له البعض ان يتنازل عن الأحلام وينهمك في الخضوع للموت الغامض، ولذلك ستتشابه الاعياد حول مستقبل القاهرة المحاط بالريبة، ونواح دمشق وحلب، وبموازاة القلق الممتد حتى شيراز.
لقد تنبه النقاد الى ان وردة شقائق النعمان ظلت تحمل الكأس ٤٠ عاما، في قصائد حافظ الشيرازي، اذ يقوم بإنشادها في اوضاع متعددة وهي تحتسي الصهباء، على يسار الدراويش، وعلى يمين الشعراء، لا طرباً لنبأ مفرح، ولا طلباً لمرتبة في العرفان، بل لمواجهة انسداد الزمان والضجر المتأتي من انتظار الحكمة.
عيدكم مبارك. وعساكم من عواده.
عيد "فوق العادة"
[post-views]
نشر في: 6 أغسطس, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 3
المدقق
وانت اين ذهبت ايها الكاتب العنجوكي ؟؟ الم تذهب الى كردستان هربا من اوضاع بغداد ؟؟؟ وتركت الموت لقراء الصحيفة الكرام .. لا تنه عن خلق وتأتي بمثله . عار عليك اذا فعلت عظيم ... هزلت
اكرم حبيب
السيد الطائي المحترم لقد شاخت مواويلي وارخ لحزني القصب على رغم انف السلطان وحماقته وفريقه الجاهل الجبان ورغم اوجاعنا للعيد نكهة افتقدناه طالما فريق الجبناء بداء بالهرب وبملئ الفمعلى مختلف درجاتهم الخاصة ورتبه الكبيرة والصغيرة حتى اصبحت الخضراء مدينة اشباح
سعدي جمال الدين
لاغرابة فيما اجهدت قلبك في كتابته ياعزيزي سرمدحيث ان السلطان السابق ياماردد وبلا تردد او حياء(العراقيون مشاريع استشهاددائم)والبركه كل البركه بالعراقيات الولودات.