في زيارته الخاطفة، قبل أيام، إلى لندن ضيّفت، وهو ليس بالضيف، صديقي الملحن كوكب حمزة في بيتي، وكأي صديقين قديمين نبشنا معاً ذاكرتنا المشتركة فتشعب بنا الكلام واتصل وانفصل، ودرنا على الكتب والموسيقى والأغاني والنساء والسياسة – السياسة كانت الموضوع المدعاة للمرارة – أما العراق فكان أصل السوالف وجذر الكلام الذي تفرع كثيراً حيث كدنا نتيه لولا معرفتنا الوثيقة بما جرى، وما يجري، وتبادلنا الشعور الشخصي ذاته: كان إحساسنا واحداً بالغربة المبكرة – أي ما قبل الهرب من القسوة والخوف واللامكان – حتى بدأت بطرح بتلك الأسئلة حول أغنيتنا العراقية التي لا يجيد الإجابة عليها إلا أمثاله، أي العارفون بمشكلاتها وانتاجها وإذاعتها.
سألته: هل يجوز لنا أن ندعي بأن ثمة أغنية عراقية؟
قال: إذا اعترفنا بالتنوع القومي/ اللغوي في العراق، لا يمكن القول بوجود أغنية عراقية، ذلك أن المركز شديد القسوة على الأطراف، والمتن المهيمن لم يعترف بأي هامش فني، فبقيت الأغنية العراقية عربية اللغة واللهجة وما عداها لم تجد لها مكاناً في وسائل الإنتاج والتسويق والترويج المركزية الرسمية، ومن هنا جاءت أغانينا مثل طيور مقصوصة الأجنحة لا تبلغ سماء الوطن كلها، وكذا الأمر بشأن أغاني الكرد والتركمان والأيزيدية وسائر الأقليات التي سميناها بـ "المتآخية" بينما هي أعداء يجب إبادتهم على أيدي الحكام الشوفينيين وموظفيهم العسكريين والمدنيين الذين قادوا المؤسسات الثقافية والإعلامية في البلد لعقود طويلة.
سألته: ما هي الأغنية النموذجية التي تتطلع لئن تنتجها، انطلاقاً من تجارب لحنية عربية، كصيغة جديدة ونهائية؟
أجاب: لو تسنى لي أن أجمع أجزاء من تجارب لحنية عربية مثل: زياد الرحباني ورياض السنباطي ومحمد الموجي لأنتج أغنية عربية جديدة.
سألته: ... ومحمد عبدالوهاب؟
رد: عبدالوهاب فنان قدير، رغم السلطة والنفوذ اللذين بين يديه، لكن الكثير من الأغاني التي لحنها يعوزها "المنطق" الموسيقي، فهو مغرم بإدخال آلات حديثة في الأغنية بلا مبرر ولا رابط بينها. لكنه اختتم حياته بأغنية مهمة هي "من غير ليه".
وعلى سؤال: من هو أكثر الملحنين العرب إسهاماً في حداثة الأغنية العربية؟ أجاب:
محمد الموجي منذ تلحينه لأغنية "صافيني مرة" لعبدالحليم حافظ وبلغ الذروة في أغنية "كامل الأوصاف".
سؤالي الأخير كان حول الهوة الكبيرة بين الأغنية العراقية والشعر الحديث، وأين مكمن الخلل؟
أجاب: اللهجة الشعبية أقرب للناس وهي أسهل توصيلاً، والشاعر الشعبي الغنائي الذي كتب الأغنية تمرس بانتاج نصوص مبدعة مثل المرحوم ذياب كزار (أبو سرحان) لتبقى القصيدة الفصيحة بعيدة عن متناول الملحن، لأسباب عدة منها: نخبويتها وجلوسها في برج عاجي، ثم أن مواصفات الأغنية تختلف عن مواصفات القصيدة تقنياً واستنكاف أغلب شعراء الفصحى من كتابة أغنية تسير في أزقة الناس ممسكة بأيديهم وتضيء لهم الأركان المعتمة في حياتهم اليومية.
أما الأصوات الجيدة ممن تعامل معها فنياً والأكثر استجابة للحن والتصرف بحرية معه فهم: مائدة نزهت وفاضل عواد وأخيراً سيدة سورية شابة تقيم في بريطانيا اسمها هالة أرسلان.
ولأن "المجالس بالأمانات" كما يقال، فقد طفح حديث كوكب بالمرارة واليأس لم أشأ أن أنقله كله، فالساحة الغنائية العراقية والعربية تعج بالرداءة والقائمون على السوق يفضلون البضاعة الرخيصة لتكريس الجهل والسطحية لتمكين العملة الرديئة من طرد العملة الجيدة، وكثير من الفنانين تحولوا إلى بقالين يعرضون بضاعة أنتجت على عجل بلا روح ولا عمق ولا ارتقاء بأذواق الجمهرة الواسعة من المستمعين.
أغنيــتنــا العراقيـــة.. مع كوكــب حمـــزة
[post-views]
نشر في: 12 أغسطس, 2013: 10:01 م