1- تعايش الاثنيات والاديان في دولة المواطنة المعاصرة
من الأمور الباعثة على الاستغراب ان كثيرا من الشباب الاكاديميين العراقيين يجهرون بانتقادهم لشكل الدولة العراقية منذ تأسيسها كونها دولة مصطنعة لفقتها بريطانيا من مجموعات بشرية مختلفة لا يربط بينها رابط ، متغافلين عن حقيقة موازية مفادها أن دولا أخرى تشكلت على النمط ذاته فسوريا ولبنان وبلاد المغرب والولايات المتحدة ودول اخرى في آسيا قامت على الأسس ذاتها ولا تختلف عن صورة الدولة العراقية الا في طبيعة الاداء السياسي اللاحق الذي تبنى شكل الدولة القومية القامعة- فدولة مثل الولايات المتحدة بلد المهاجرين والتنوع الفريد ،التزمت الديمقراطية ودولة المواطنة التي تضمن حقوق مواطنيها دون تمييز في تحقيق العدالة والخدمات والامان لهؤلاء المواطنين المنحدرين من أديان واعراق متنوعة وكان الأجدر بنا –أكاديميين ومثقفين وكتابا – ان نوجه النقد لنمط الدولة القومية القامعة التي شاء لها النزوع الشوفيني ان تكون الدولة المتحققة بكل سلبياتها ، علينا تحديد نقدنا لنمضي قدما في العصر الحديث كما فعلت الولايات المتحدة والهند وماليزيا والمكسيك وسنغافورة.
ولنأخذ سنغافورة مثالا لدولة معاصرة ناجحة تخطت أسطورة الدولة القومية : تتكون الكتلة البشرية في سنغافورة من مجموعة المهاجرين القادمين من الصين والهند وجزر المالاوي واليابان والقوقاز والتاميل بمعنى انها دولة تتكون من اثنيات مهاجرة متنوعة الثقافات لا ترتبط برابط تاريخي كالدين او اللغة او الذاكرة الجمعية او العرق ، وسنغافورة بلد المعجزة الاقتصادية الاكثر شهرة في جنوب شرقي اسيا هي المدينة الأكثر عولمة حسب مؤشرات قياس العولمة وفي بلد كهذا تنتعش الثقافة وتتألق بتنوع الاثنيات وتعدد مصادر ثقافتها لتجد لنفسها افقا ثقافيا منفتحا على التعددية ، برغم الانتقادات حول الفجوة الوجدانية في التطبيق السياسي للحزب الحاكم ومن جهة اخرى استطاع الحزب الحاكم توحيد لغة البلاد باستخدام اللغة الانكليزية كلغة رسمية لعموم البلاد بعد خلافات ومداولات استمرت طويلا بين الاكثرية الصينية والمجموعات الهندية والمالاوية حول أحقية استخدام اللغات الثلاث الرئيسية مما حرك الاثنيات الاخرى للمطالبة بعدم اهمال لغاتها وثقافاتها وهذا يعني استخدام سبع لغات او ثمان رسمية مرة واحدة وكان الحل باستخدام الانكليزية تجنبا لنشوب صراعات طائفية واثنية تقود الى تخريب خطوات الاستقلال والبناء ويبقى من حق الاعراق والقوميات كلها استخدام لغاتها في شأنها الثقافي والتوثيقي .
أما عندنا فمنذ تأسيس الدولة العراقية خلال الاحتلال البريطاني بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية التي سحقت المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها واستنزفت مواردها - كان بالإمكان التركيز على بعد رمزي وطني جامع بوسعه ان يكون أساسا لبذرة الهوية الوطنية وليكن البعد الثقافي الرافديني الذي تنتشر مواثله ومؤثراته وانعكاساته في عموم الجغرافيا العراقية لتعزيز الانتماء لهذه الأرض كموئل ثابت وللزمن المعاصر كمجال متغير متجدد ، ولو توفر حينها مثقفون يمتلكون مشروعا ثقافيا واعيا بأبعاد مستقبلية يستند الى جذر من الأرض ذاتها ومن انعكاسات الحضارات الإنسانية التي أسست لحضارات العراق لكان ممكنا ايجاد صيغة للتشبث بالهوية العراقية الرافدينية الجامعة بين الاثنيات والأديان كلها في بوتقة اكبر وأرحب من الانتماءات الثانوية إلا ان الذي حدث هو استيلاء القوميين على تشكيلات الجيش والوظائف العامة و التعليم و قد تطورت النزعة القومية لاحقا الى تقليد النموذج الألماني المستمد من تقاليد الدولة البروسية التي وطد دعائمها بسمارك في القرن التاسع عشر ، و هي تحتكم حتما إلى تقاليد العسكر المضادة لحياة مدنية رحبة .
يتبع