مثل مكتبة أي قارئ، منفي أو مغترب أو مهاجر، لابد أن تكون مكتبتي صغيرة، فالغريب، في الأغلب، يكتفي، مضطراً، بالصغير: البيت والأثاث والقوت والصحن والرف والطاولة والسرير.
أقمت في غرف لا مكان فيها للمكتبة لفرط ضيقها، حتى أنها لا تسع قامتي، وأنا متوسط الطول، أن تقف مستقيمة، فالسقف واطئ والمساحة ضيقة وكنت كمن يقيم في زنزانة.
لكن لا بد من وجود كتاب أو أكثر.. كنت أضع الكتب تحت السرير أو على ما يسعها في أرضية الغرفة الصغيرة جداً.
المكتبة، مهما كانت صغيرة، تكبر مثل الإنسان.. تنمو وتتصابى وتشب وتتكهل، لكنها تختلف عن الإنسان في إنها لا تخرّف في نهاية العمر بل تزداد حكمة وتنوعاً وانتماء للعالم.
مكتبتي الصغيرة، دائماً، تكبر بالإحساس الذي لا يكتفي بالموجود، ولكن أين هي من مكتبة ألبرتو مانغويل، صاحب "تاريخ القراءة" و "المكتبة في الليل" أو مكتبة صديقي فالح عبد الجبار؟
المكتبة الشخصية تتحدى صاحبها عبر سعيها المحموم للنمو وهي لا تني تلح عليه: إذا كنت تطمح في المزيد فعليك أن تزيدني، مثل موقد سينطفئ بعد قليل أن لم تطعمه الحطب من أجل مزيد من الدفء.
صباحاً قبل الذهاب إلى الجريدة أقصد كوخي الصغير، الملحق في آخر الحديقة الخلفية للبيت، حيث جزء من مكتبتي الصغيرة (الجزء الثاني في الصالون والجزء الثالث في الآيباد وثمة جزء رابع في الحاسوب العادي) ومساء، بعد العودة من العمل أقصد مكتبتي الصغيرة في أركانها الأربعة لاجئاً إنسانياً أبحث عن حلفاء من عباقرة الكتابة ليعينوني في حربي الصغيرة، هي الأخرى، مع سفالات العالم وانحطاطاته والشد من أزري لمواصلة طريق البحث عن كلمة جديدة لم يسمع بها أحد.
ما أعانيه، حقاً وفعلاً وصدقاً، هو ولعي في العودة إلى كتب قرأتها سابقاً، رغم بحثي عما يستجد، طبعاً، في مكتبات العالم التي أستطيع قراءتها بلغتين فقط، للأسف.
هل يرجع هذا إلى امتحان نفسي لمعرفة الفارق بين قراءتي في سن العشرين مثلاً لرواية مثل (الأبله) لفيودور دوستويفسكي وقراءتها وأنا بعد الستين.. أم إنني أستعيد زمني القديم جداً لأتنشق عبير "مدام بوفاري" عبر تلك الحاسة الوثابة أبان الشباب، أو عندما حملت في جيبي رواية نشرتها دار "الهلال" المصرية للسوداني الطيب صالح بعنوان "موسم الهجرة إلى الشمال" حيث استلقيت مع "مصطفى سعيد" على أحد شواطئ النيل الأزرق تحيط بي الأغنام والأبقار والأعشاب البرية وحكايات "بنت مجذوب" الفاحشة؟
لا أدري، ربما يرجع الأمر إلى أن المنفي يبقى أسير ماضيه على وفق قانون مرضي يتهشم فيه الزمن بدءاً من حاضره ليتشبث بماضيه البعيد.
أطلب اللجوء الإنساني إلى مكتبتي الصغيرة، باجزائها الأربعة، لتحميني من عسف الفراغ والجهالة والتوتر فأسترخي بين أحضان رجال ونساء كتبوا أفضل الكتب وقصوا علينا أحسن القصص.
أتعب أو أنعس فأذهب إلى السرير مثقلاً بأسئلة ما قرأت من كتاب أو بعض كتاب، حاملاً معي أشباحي من حلفاء النهار والليل وهم لا يزالون يثرثرون ويتمتمون بحوارات مقتضبة أو يصفون أحوالهم وهم في أشد حالات الوحشة والعشق والحيرة.
لا شيء أكثر حيوية من كون صغير تطلب إليه أن يقبلك لاجئاً إنسانياً مثل مكتبة، صغيرة كانت مثل مكتبتي، أو هائلة مثل مكتبة البرتو مانغويل أو الوراق الساحر خورخه (جورج) لويس بورخيس.
المكتبة هوية صاحبها، إذ يمكنك أن تعرف الشخص من مكتبته، والمكتبة ليس أن يقيم المرء بين الكلمات إنما هي إقامته في وطن بديل عندما يستحيل عليه أن يقيم في أي وطن آخر.
مكتبتي الصغيرة
[post-views]
نشر في: 19 أغسطس, 2013: 10:01 م