قبل ايام وخلال مشاهدتي صدفة فيلم "اليوم السادس" للمصري يوسف شاهين، سمعت مرة أخرى، وبعد سنوات طويلة، أغنية داليدا "الدنيا الكبيرة، وبلادها الكبيرة...لفيت، لفيت...ولما ناداني حبي الأولاني، سبت كله وجيت..."حتى نهاية المقطع الذي لا يحضرني الآن. لم تذكرني أغنية المغنية الإيطالية الأصل، المصرية المولد، والتي ترجع إلى أماكن طفولتها عندما تصبح على مشارف نهاية الأربعين من عمرها، المغنية التي أنهت حياتها بالانتحار، لم تذكرني بما يحدث لي كلما زرت البلاد التي تركتها خلفي قبل أكثر من ثلاثة عقود وحسب، إنما ذكرتني أيضاً بالفيلم الإيطالي الجميل "سينما الفردوس"، وأجبرتني على حمله من محل الفيديو القريب من البيت في اليوم الثاني. ولم أنتبه لسلوكي، إلا عندما انتهيت من مشاهدة الفيلم، لأعرف لماذا حملني الحنين لرؤية فيلم المخرج الإيطالي جوسيبه تورانتوره، بالذات، وانني لن أمل منه حتى لو شاهدته للمرة الألف (حتى الآن شاهدته أربع مرات). من شاهد الفيلم الجميل هذا، سيتفق معي أنه ينتمي إلى تلك الأفلام الخاصة التي تلمس نياط القلب.
الفيلم يحكي قصة رجل يعود بعد غياب دام ثلاثين سنة، إلى قريته، مكان طفولته. كان يخاف ان تتغلب عليه الانطباعات، ويقع فريسة انفعالاته، لكن لا يحدث ما توقعه. نعم، جوانحه لم ترتج إلا قليلاً، فهو يتذكر الصبي الصغير الذي كانه ذات يوم، لكن، وذلك هو الاكتشاف العظيم الذي يتوصل إليه، يدرك انه انتهى من الماضي. ان الحاضر الذي يعيشه، هو أهم بالنسبة إليه، رغم ان هذا الحاضر لم ينشأ ويتطور إلى الصورة الحاضرة التي عليها، بدون الوجود السابق لذلك الماضي الذي عاشه الصبي الصغير في تلك القرية الصغيرة الإيطالية، في صقلية.
هكذا، لكي ينمو المرء وينضج، عليه ان يترك الطفولة بشكل جذري خلفه. وكلما ابتعد المرء مدة أطول عن الأماكن الأولى، كلما استطاع الرجوع لتلك الأماكن مرة أخرى، دون ان يصاحبه الألم الممزق ودون ان يحرقه ذلك الألم. ولكن إذا لم يستطع المرء الصبر وعاد إليها مبكراً ــ قبل ان ينتهي من ذلك الماضي ـ فإن الجراح القديمة ستؤلمه بالتأكيد، كما يحصل عند زيارة المرء المقبرة، والوقوف أمام قبر لشخص حبيب مات قبل فترة وجيزة، الوقوف بحزن مصحوباً بمرارة الخسارة.
كل شخص، رجع ذات مرة إلى الأماكن القديمة، وخاصة تلك الأماكن التي كان فيها سعيداً ذات مرة، يعرف هذا الشعور ـ وهل هناك شعور أجمل يستحوذ على المرء ويلح عليه، أجمل من شعور الطفولة ـ، وهناك الكثير من الأفلام، والكثير من الروايات، والكثير من القصائد التي تعيش وتغرف من ذلك الشعور، والتي تدهش في وصفها ذلك الوضع، او التي تجعلنا نغيب او نطير مع العوالم التي تصفها او العوالم والمشاعر التي تستفزها فينا، لا يهم مدى السنوات التي مرت على ذكرى مغادرة المكان الأول.
"لفيت لفيت..ألخ"، تقول دليدا في أغنيتها، وهنا تبدأ سلسلة القصة: هنا عشت كطفل! هنا وقعت في الحب! هنا، تنزهت، هنا قبلت فتاة للمرة الأولى، وفجأة تنزل الدموع. انه أمر مؤلم، الا نعثر ثانية على أماكن الذكريات!
رغم كل شيء، يثير استغرابي الشعور المحبط عند البعض عندما يعودون لرؤية المكان ذاته بعد زمن طويل، ليس لأن مشاعري تحجرت مثل الكثيرين الذين عاشوا بعيداً عن أماكن طفولتهم، إنما لأن الأماكن ذاتها لم تعد موجودة، إذا لا تكون تغيرت، أو أنها تتغير كل يوم، (لكي لا نتحدث عن الناس، بما فيهم أهلنا). أتذكر بعض الذين عادوا بعد سنوات، والذين يحضرون في ذاكرتي: توماس مان لم يجد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلا القليل من مدينته، ترافيمونده، الواقعة إلى الشمال من المانيا، مثله مثل مواطنه والحائز على النوبل مثله، هاينريش بول الذي لم يعثر على مدينة صباه "كولن"، الواقعة في وسط ألمانيا.
لا نعثر على شيء عند عودتنا إلى المكان نفسه. هكذا تردد أغنية داليدا، التي أتذكر نهايتها الآن "ولما ناداني حبي الأولاني..سبت كله وجيت.. وفي حضنو إرتميت.." ففي النهاية توجد مدينة طفولتنا فقط في قلوبنا. وهي تنتمي إلى ذلك المكان البعيد أيضاً، المكان الذي ينبض فيه القلب الحنون، بلد القلب الحزين!
بلد القلب الحزين
[post-views]
نشر في: 20 أغسطس, 2013: 10:01 م