القارئ للعلاقة بين السلطة والشاعر منذ بدء الدولة الأموية الى الآن يجد انها تتمحور في موقفين: اما ان تغدق على الشاعر ليكون مداحّها واذاعتها واعلامها الجماهيري ،واما ان تضطهده اقتصاديا ونفسيا، وان تطلب الأمر قطعت رأسه الذي فيه لسانه.قليل من الخلفاء وال
القارئ للعلاقة بين السلطة والشاعر منذ بدء الدولة الأموية الى الآن يجد انها تتمحور في موقفين: اما ان تغدق على الشاعر ليكون مداحّها واذاعتها واعلامها الجماهيري ،واما ان تضطهده اقتصاديا ونفسيا، وان تطلب الأمر قطعت رأسه الذي فيه لسانه.
قليل من الخلفاء والسلاطين والأمراء في امتنا تصرفوا مع الشعراء والفنانين تصرفا حكيما وانسانيا و(براغماتيا) كما تصرف الملك (فيليب)مع الفنان (فيلاسكس).فقد كان هذا الفنان مشتركا في مؤامرة ضد الملك الإسباني فيليب، فاعدم المتآمرين جميعهم الا فيلاسكس فقد جعله فنان البلاط. كان قتله سهلا كالآخرين ،غير ان الملك فكّر بذكاء بأن الموهبة تكون في العادة نادرة، وأنه يمكن ان يستثمرها.. وكان له ما اراد .فلقد انتج فيلاسكس لوحات فنية رائعة خلدت الملك فيليب، والأهم انها شكلّت انعطافة جديدة في تطور الفن الإسباني، على العكس تماما من موقف سلطة فرانكو التي اعدمت شاعر إسبانيا العظيم الشاب (لوركا)..فخسرت إسبانيا والإنسانية موهبة وعبقرية لا تعوّض.
اما في تاريخنا العربي والاسلامي فالحال ادهى وأمّر.. اترك استحضار مآسيه لذاكرتكم. لكن اللافت ان سيكولوجيا العلاقة هذه بين الشاعر (والفنان والعالم والمفكر) وبين السلطة لم تتغير. ففي سبيل المثال ،لنأخذ الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، فما الذي فعله اكثر من مدحه لصدام حسين. والواقع ان مدحه له كان لقاء ثمن يحتاجه مزاج الشاعر :بيت قيل عنه أنه فاخر. وكان (السلطان)ينفّذ له رغباته،حتى انه طلب منه ذات يوم ان تكون في البيت (مسنايه)..فكانت!.
وعبد الرزاق لم يفعل اكثر مما فعله شاغل الدنيا الهائل العظيم (المتنبي)الذي مدح حاكما وضيعا مغتصبا للسلطة ليوليه على إمارة ولو بسعة مدينة حلب. ولما لم يستجب كافور لطلبه هجاه المتنبي بأفظع ما في قاموس لسان العرب من مفردات بذيئة!. ولم يفعل اكثر مما فعل شاعرنا الخالد الهائل العظيم (الجواهري)الذي كان سكرتيرا للملك فيصل الأول ومدحه بقصائد كثيرة ..ومدح ملك المغرب وملك الأردن(يبن الملوك وللملوك رسالة.. من حقها بالحق كان رسولا)..ونوري السعيد ايضا :(أبا صباح وأنت العسكري..)..وحتى احمد حسن البكر وصدام حسين :(نعمتم صباحا قادة البعث واسلموا...) ثم هجاهم شرّ هجاء بعد انقلاب 14رمضان 1963:
(أمين لا تغضب وان اغرقت...عصابة بالدم شهر الصيام
وان غدا العيد وأفراحه ......مأتما في كل بيت يقام)
ويبقى هو الجواهري صاحب الروائع الخالدات (أخي جعفرا، قف بالمعرّة، دجلة الخير..) والساكن في قلوب العراقيين.. والتاريخ.
ثم ألم يكن (عبد الرزاق)افضل من شعراء (كبار )يتنفسون الآن هواء الوطن المحروم منه؟. ومن من هؤلاء الشعراء نظم قصائد وجدانية غاية في الرقة والمشاعر الانسانية الراقية كالتي نظمها عبد الرزاق؟. ومن من شعراء الاسلام ،والشيعة تحديدا، نظم قصائد في (الحسين) و (الحر الرياحي) كالتي تدفقت بها عبقريته ،وهو الصابئي اصلا وفصلا؟!.ثم من (الأخطر)،ان كان في الأمر خطورة سياسية او اخلاقية: الشاعر العبقري والفنان الموهوب والعالم المبدع ،أم بعثيين كانوا كبارا في الجيش والمخابرات يحتلون الان مراكز مهمة في الحكومة؟ أم الاف الفاسدين الذين نهبوا ملايين الدولارات ولم يحاسبوا ؟أم سياسيون في النهار وقادة ميلشيات وإرهاب في الليل؟
انا شخصيا اكره في عبد الرزاق عبد الواحد سلوكه، وأدين مدحه للطغاة والطغيان ،واساءاته لعدد من المثقفين.. غير اننا لا نختلف بشأن عبقريته، بل نكاد نضع موهبته فوق منارة لا تقل علّوا عن منارات المتنبي والمعري والجواهري.. فلماذا نضحّي بعبقرية شاعر في عصر صار فيه ميلاد شاعر معجزة.. عصر الكومبيوتر الذي لا يجود لنا زمانه بشعراء وفنانين ومبدعين كما جادت به الأزمنة القديمة؟. ولماذا لا نتفق من الآن على ان يكون هؤلاء، اعني الشاعر العبقري والفنان الموهوب والعالم المبدع والمفكر الأصيل ..خارج الممنوع من الصرف.. السياسي؟
لقد تساءل الكاتب يوسف ابو الفوز في مقالة له بالمدى(هل ينفع العراقيين اعتذار شاعر سلطوي: كيف سيكون اعتذار عبد الرزاق عبد الواحد، وبماذا سينفعنا ؟ وما قيمته ؟ أدرك جيدا ان هناك نوايا طيبة وحسنة عند البعض ممن دعوا عبد الرزاق عبد الواحد للاعتذار، وأن فيهم من يريد صادقا أن يقدم عبد الواحد اعتذاراً عما ارتكب بحق العراقيين في تسويغ الفاشية الصدامية ومديحها، لكي لا يتساوى الضحايا من أمثالنا والجلادين من أمثالهم ـ كما كتب الشاعر عواد ناصر في موقعه على فيس بوك).ويختم مقالته(فليبق هذا الشاعر سلطويا فلا أعتقد أن اعتذاره سيزيل المقابر الجماعية من خارطة العراق، أو يمسح الخردل عن القرى والقصبات الشهيدة في كردستان أو يعيد الحياة لضحايا الحروب المجنونة مع الجيران. وإن اعتذار هذا الشاعر السلطوي لن يطفئ الغضب في عيون عوائل من أبادهم الطاغية غيلة في سجونه أو حروبه المجنونة ، أو يعيد شباب من شردهم في المنافي فصارت للعراقيين بفضل سيده مقابر في مختلف بلدان العالم).
ومع ان هذا الموقف يحمّل الشاعر مسؤولية جرائم الطاغية ،الا انه مشروع، شرط ان يكون مبدأ" ينطبق على جميع الشعراء الذين امتدحوا الطاغية ونظامه. فالواقع يشير الى ان عددا من الشعراء الذين امتدحوا صدام بقصائد وصفوها بـ(العصماء)وكانوا يتباهون بها امام طلبتهم.. هم الآن يحتفى بهم في اتحاد الأدباء وتخصص لهم أمسيات.. ما يعني ان عبد الرزاق افضل منهم لأنه لم يتلوث برذيلة النفاق. فضلا عن ان الدكتور هاشم عبود الموسوي يشير الى ان( كثيرا من الشعراء الذين طبّلوا وزمّروا للنظام الأسود يحتلون الآن مراكز مهمة في مجال الثقافة والصحافة، وان احدهم هو اليوم مسؤول عن اهم دائرة حكومية للنشر في العراق ،والشخصية الأهم التي انيطت بها فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية).
ما الموقف الصح من شاعر عبقري كان مدّاحا للطاغية؟ هل نطلب منه شرط الاعتذار كي نسمح له بالعودة؟ أم نتركه يموت في الغربة جرّاء ما اقترفه لسانه؟
ثمة مقولة للسيد المسيح عن زانية تجمع حولها الناس ليقتلوها، تقول :(من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).ولنطبقها على من في السلطة الآن.. أليس بينهم من ارتكب، ولا يزال، افظع الجرائم بحق العراقيين؟ دع عنك مثقفين كانوا محسوبين على النظام السابق صاروا سفراء وملحقين ثقافيين في زمن الحكومة التوافقية!.
لقد بلغ الشاعر عبد الزراق عبد الواحد من العمر عتيا، ولم تعد له رغبة في الدنيا ولا في النساء ايضا!..فأن كانت له رغبة في أن يعود ويدفن في وطنه فله الحق في ذلك وليس لأحد منة عليه.. ولتكن شخصيته ،التي حظيت بجوائز محلية وعربية وعالمية، وثروة وعبقرية شعره موضوعا لدراسات أدبية وسيكولوجية يلتقط منها العبرة.. الشعراء والحكّام ومن هو مشروع لشاعر كبير.. ولنخفف من انفعاليتنا، فعلتّنا نحن العراقيون ان سيكولوجيا الانفعال تتحكم بنا وتحبب لنا الانتقام حتى من الذين كانوا شريكا ولو باللسان في سبب مصائبنا!
جميع التعليقات 3
د.فجر جودة
أخي قاسم لم أتفاعل مع مقالة جميلة منذ زمن كما تفاعلت مع مقالك عن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد لم تكن المقالة جميلة وحسب بل كانت دعوة لبناء وطن خال من أسلحة الكراهية . أشاطرك الرأي بان شاعرا عبقريا مثل شاعرنا لا يستحق أن يبقى مشردا في المنافي لانه كتب قصي
د.معن خليل عمر
أخي قاسم إطلعت على مقالتك عن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد لمست فيها أحساسك الوطني قبل الإنساني وقد أعجبني ذلك لان المبدعين والخلاقين العراقيين كانوا دائماً هدفاً الإقصاء والاستبعاد والتهميش أو القتل أو السجن وإبعادهم عن مسارحهم المبدعة وقد عشنا وشاهدنا ه
psk
قيلَ للشمس ِأن تـَستـَقيمَ على مَوضع ٍلا تـَغيب وَلـِلـنـَّجم ِكـُنْ أنتَ منها قريب ثمَّ خـُط َّعلى الأرض ِمُنعَـطـَفانْ تـَبَجَّـسَ بينهُما الماءُ ، وانحَسَرَتْ آيـَتـانْ بمُعجـِزَةٍ تـَجريانْ فالتـَقى الفجرُ بالـلـَّيـل ِ والنارُ بالسـَّيل ِ كلٌّ بأمرٍ