أنفقنا المال والزمن في تدريب أبنائنا على البنادق، ولم نجد مزاجاً كي نقص عليهم حكاية الشعوب الآسيوية التي التحقت بركب الحضارة وصار امنها جزءاً من امن الاقتصاد الدولي. أمضينا قرونا نهجو الأقوياء ونربي أبناءنا على كرههم، واليوم نتوسلهم كي يغيثونا وهم حائرون في كيفية التعامل معنا. ألسنا نحصد نتائج قرن من هذا؟
أنفقنا جهدنا في "الدفاع عن الله" فصرنا ندوس القيم بالأحذية، (وربما صارت السماء تتردد في مد يد العون لنا).
تمسكنا بصلابة جوفاء، ولم نتعلم مرونة التاجر حتى تكسرت كل الصواري، وحين اردنا التنازل، كنا فقدنا كل شيء ولم يبق لدينا امر يستحق العرض على طاولة الأمم المشغولة بالتجوال بين المريخ وعطارد.
هنا في "العالم القديم" لا تزال حروف كلمة حرب، على قيد الحياة. يمكن لك ان تتحسس حرارة حائها، ورنين رائها، وتفخيم بائها، لتشعر وحسب، بالاحساس ذاته الذي ارتسم عبر الدهور، على ألسنة القبائل والقوافل والملوك والجيوش، الذين تلفظوا بها، معلنين انطلاق شرارة نزاع، او نهاية صراع.
انها لغة "مستعملة" لست الاول الذي ينطقها. الكلمة في فمك، أشبه بوعاء اثري مصنوع من الحجر الصقيل، جرى استخدامه تريليونات المرات وهو يتنقل من لسان الى آخر. والوعاء الملفوظ هذا "ح ر ب" ينتقل من حنجرة الى اخرى منذ بدء الخليقة، بصيغ متفاوتة، تتشابه كلها في الإمساك بالنار والفزع والكراهية.
الحرب كانت النشاط الأساسي للأمم، والحاجة إليها، تشبه الحاجة الى الماء وتناول الطعام، اي سلوك يسلكه الجميع بحثاً عن الماء والكلأ والغنائم، يتجه الشباب الى محرقتها طائعين متحمسين، كما يتجه اليابانيون اليوم بالملايين نحو مصانعهم ومؤسساتهم، "بحثاً عن الماء والكلأ".
كانت حرباً في زمن ليس فيه سوى الحرب، تختلف كثيرا عن حروبنا اليوم، التي تبدو حرباً في غير أوانها، او حرباً في زمن نهاية الحروب.
فقد شاءت الآلهة القديمة ذاتها، ان تستبدل العراك بالأيدي والأدوات الجارحة والقاتلة، الى صراع من نوع آخر، على الماء والكلأ والغنائم ايضا. آلهة التاريخ "اخترعت" شكلاً متحضراً للصراع، يظل تنافساً محموماً بين شوفرليت وتويوتا، وامتداداته الاكثر تعقيدا في دورة رأس المال. لكن الآلهة كما يبدو، لم تحسن ابلاغنا نحن "العالم القديم" بهذا التحول العميق في لعبة التاريخ، فبقينا نحارب على نهج النياندرتال، عراكاً بالايدي او "بوكسات" على الطريقة التي تحدث عنها مؤخرا نوري المالكي.
الآلهة لم تحسن اقناعنا بأن قواعد الصفقة تغيرت، وأن حروب اليوم تتطلب تدريباً مختلفاً، وميدان مواجهة مستحدثاً يتيح بناء قوة يحترمها الناس، ويوفر لك المقسوم من "مائك وغنائمك". لقد خرجنا من حروب الزمان المعقولة، وعلقنا في "عراك" بلا جدوى خارج التاريخ. لم نصدق بأن العالم تغير، ولذلك فإننا نحترق اليوم دون ان يشفق علينا احد، لاننا نخوض عراكاً خارج الزمان، ونتقاتل داخل ذاكرة سيئة للبشرية، لا يريد ان يستعيدها الانسان المعاصر.
انقطعت عنا رسل السماء، او فشلت في اقناعنا بأن الزمان تغير. وها نحن نفشل في خوض الحرب اللائقة بالفرسان. لا نجد ما نفعله فنجلس عاطلين عن كل شيء. ولا حل امامنا سوى ان ننهش لحوم بعض. لقد فقدنا جسارة المحاربين الحكماء، وانحشرنا في نادي المتلاعنين بالدم.
وليس هذا سوى حصاد "خوفنا من العصر الجديد" الذي عزلنا بكل قسوة، داخل "عراك" العالم القديم.
لقد رفضنا أصول الشراكة مع الأقوياء فصرنا عبيدا لعبيدهم. قاتلنا بلا خطط وبذرنا دماءنا، دفاعاً عن اشياء غامضة، فتم التعامل معنا كمجانين، يحتجزهم العالم المتقدم في محجر او مصح معزول. إننا اليوم داخل المصح، معزولون ونقتات على لحم بعضنا. انها فرصة مناسبة للتأمل، لنتحقق مما اذا كنا لانزال على قيد الحياة، قادرين على الفهم.
حرب في زمن نهاية الحرب
[post-views]
نشر في: 25 أغسطس, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 2
المدقق
اذا جانت هاية مثل ذيج خوش مركة وخوش ديج ... الله يرحمك يونس شلبي اجه على بالي دورك بمسرحية مدرسة المشاغبين من يكلك سعيد صالح gt gt وهذا كويتبنه هم هيج ما يعرف يجمع جملة مفيدة .. هزلت
آريين آمد
نعم.... فالعالم المتحضر يلفضنا خارج التاريخ.... لاننا امة لا تجيد سوى النكاح والعويل في الصحراء.... سلمت اناملك يا سرمد الطائي